كتاب > الكتب الأدبية والفكرية
مغامرة العقل الأولى
“عندما انتصب الإنسانُ على قائمتين رفع رأسه الى السماء ورأى نجومها وحركة كواكبها، وأدار رأسه فيما حوله فرأى الأرضَ وتضاريسها ونباتها وحيوانها. أرعبتهُ الصواعقُ، وخلبت لُبَّه الرعودُ والبروق. داهمتهُ الأعاصيرُ والزلازلُ والبراكين ولاحقتهُ الضَّواري. رأى الموتَ وعاينَ الحياة. حيرتهُ الأحلام ولم يميزها تماماً عن الواقع. ألغازٌ في الخارج وأخرى في داخله. غموضٌ يحيط به أينما توجه وكيفما أسند رأسهُ للنوم، تعلم استخدام اليدين وصنع الأدوات، وفي لحظاتِ الأمن وزوال الخوف، كان لدى العقلِ متسعٌ للتأملُ في ذلك كله. لماذا نعيش؟ ولماذا نموت؟ لماذا خلق الكون وكيف؟ من أين تأتي الأمراض؟ إلى آخرِ ما هنالكَ من أسئلةٍ طَرحت نفسها عليه، كما تطرحُ نفسها على طفلِ العصر الحديث.
كان العقلُ صفحةً بيضاء لم ينقش عليها شيء، عضلةٌ لم تألف الحركةَ خارج نطاقِ الغريزة، وبعد حدود رد الفعل. ومن أداته المتواضعةِ هذه، كان عليه ان يبدأ مغامرةً كبرى مع الكون، وقفزةً أولى نحو المعرفة، فكانت الأسطورة.
وعندما يئس الإنسانُ تماماً من السحر، كانت الأسطورةُ كلَّ شيءٍ له. كانت تأملاتهُ وحِكمته، منطقهُ وأسلوبه في المعرفة، أداتهُ الأسبق في التفسير والتعليل، أدبه وشعره وفنه، شُرعَتهُ وعُرفه وقانونه، انعكاساً خارجياً لحقائقهِ النفسيةِ الداخلية. فالأسطورة نظامٌ فكريٌ متكامل، استوعب قلق الإنسان الوجودي، وتَوقهُ الأبديَّ لِكشف الغوامض التي يطرحها محيطه، والأحاجي التي يتحداهُ بها التنظيم الكوني المحكم الذي يتحرك ضمنه. إنها ايجاد النظام حيث لا نظام، وطرحُ الجواب على مِلحاحِ السؤال، ورسمُ لوحةٍ متكاملةٍ للوجود، ِلنجد مكاننا فيه ودورنا في إيقاعات الطبيعة. إنها الأداة التي تزودنا بمرشدٍ ودليلٍ في الحياة، ومعيارٌ أخلاقيٌ في السلوك، إنها مُجمعُ الحياةِ الفكريةِ والروحية للإنسان القديم."
"الأسطورة هي القصةُ المقدسةُ التي تحفظ فيها الجماعة مخزونَ معارِفها المتعلقة بما كان وبما سيكون، والأداة التي تُرسخُ من خلالها ثقافةٌ ما وجودها واستمرارها عبر الأجيال."
ونحن ما إن نتحدث عن الأساطير والتراث الحضاري حتى يلمع اسم فراس السواح، ذاك العظيم الذي بحث في الميثولوجيا وتاريخ الأديان، كمدخلٍ لفهمِ البعد العقلاني والفلسفي لفكر الإنسان. وإن كنت تريد أن تبدأ فليكن ذلك مع مغامرة العقل الأولى، حيث هدف من وراء كتابه هذا التعريف بالأسطورة في سوريا القديمة وبلاد الرافدين، معتمداً على النصوص الكاملة لأهم الأساطير المعروفة في المنطقة.
صنفّ الكاتبُ الأساطير في مجموعاتٍ حسب موضوع الأسطورة وقصتها وعبرتها وفحواها لا حسب زمانها أو مكانها. كما أظهر الباحث علاقة الأساطير السورية والبابلية بأساطير الشعوب المجاورة كالمصريين والإغريق، متتبعاً الأصول الشرقية للأساطير الإغريقية. أما سبب اقتصار بحثه على سورية وبلاد الرافدين فيرجع لولعه بهذه المنطقة واعتباره إياها كُتلةً (ثقافيةً-فنيةً) واحدة. ولكن ذلك لم يجعل دراستها أسهل، فهي على تناغم أطرافها متسعة متنوعة، كما هو علم الأسطورة.
وضّح لنا السواح أهمية الأسطورة في الوصول للحقائق، فهي أداة الإنسان في التفسير والتحليل وانعكاسٌ لفنِّه. لذا استعرض الكاتب فكرةَ تنظيم الكون وما ورد عنها من نصوص عند البابليين والسومريين وفي التوراة. لينتقل بعدها لفكرة خلق الآلهة للإنسان، وكيف فسرتها النصوص الواردة بأنها خدمة للآلهة وإراحة لهم من عبء العمل. وأورد لنا النصوص التي وُجدت في وصف الطوفان الذي اتفقت الأساطير على أنه قرارٌ من الآلهة لمعاقبة الإنسان على فساده في الأرض، ولنقل التراث الحضاري إلى قلة من البشر اختيروا لبدءِ نسلٍ جديد.
تلى ذلك الأساطير التي تُعنى بوصف الجنّة والحلم الذي انتظره الإنسان بعد الظلم الذي تعرض له في الدنيا. يعرِّج بعدها الكاتب على الصراع الدائم بين المجتمعين الزراعي والرعوي والذي تجلى في الأساطير من خلال الصراع بين قابيل المزارع وهابيل الراعي. لم يتوقف الكاتب عند هذا، بل ذكر أساطير العالم الأسفل، وكيف تجلَت صوره عند كل جماعةٍ معتمداً على ترجمة النصوص الكاملة لأهمِّ الأساطير المعروفة دون تخلٍّ أو تزييفٍ لها ولم ينس ذكر آيات من القرآن تتشابه فكرتها مع الأسطورة.
"تتنوع الاسطورة الواحدة بتنوع الزمان والمكان والناس، وبانتقالها من مكانٍ إلى مكان ومن زمانٍ إلى زمان، يضيف عليها ناقلوها أو يحذفون منها أو يغيرون من تسلسلِ أحداثها، ولكنها من حيث الجوهر تبقى واحدةً لأنها في الأصل تعبير عن دوافع دفينة واحدة وحاجات نفسية وعقلية واحدة"، بهذا يرسي السواح قواعد قراءة الأسطورة والتعمق فيها.
يستعرض السواح في كتابه كل تلك الأساطير واضعاً إياها في أجمل شكلٍ شعري، فلا هو يجهد قارئه المستجد ولا هو يودي بقارئه المطلع إلى التململ. وكلاهما سيجد في هذا الكتاب الكثير من المعلومات والتفسيرات الجديدة من خلال رؤيته الموضوعية التي استطاع باتباعها نقل الأساطير دون التحيز إلى إيَّ رأيٍ ديني.
يتضمن الكتابُ أيضًا لمحةً عن الديانة اليهودية ضمن سياق تاريخي مستعيناً بالتوراة من جهة وبالأساطير التي عاصرت فترات كتابته من جهة أخرى، ويرسم العلاقة بينها مفصلاً في الخلق، والجنة والنار، ومولياً اهتماماً خاصاً لقصة قابيل وهابيل آنفة الذكر، موضحاً قصة ذاك الخلاف بين الرعي والزراعة.
وصف للكاتب لجنة دلمون التي تجلت فيما بعد في التوراة:
"أرض دلمون مكانٌ طاهر، أرض دلمون مكانٌ نظيف
أرض دلمون مكانٌ نظيف، أرض دلمون مكانٌ مضيء
في أرض دلمون لا تنعقُ الغربان
ولا تصرخ الشوحَة صُراخها المعروف
حيث الأسدُ لا يفترس أحداً
ولا الذئبُ ينقضُ على الحمل
ولا الكلبُ المتوحش على الجدي
ولا الخنزيرُ البري يلتهم الزرع
ولا الطيرُ في الأعالي لا[..] صغارها
والحمامةُ لا [..] رأسها
حيثُ لا أحد يعرفُ رمدَ العين
ولا أحدَ يعرفُ آلامَ الرأس
حيث ُلا يشتكي الرجلُ من الشيخوخة
ولا تشتكي المرأةُ من العجز
حيث لا وجودَ لمنشدٍ ينوح
ولا لجوالٍ يعول "
"مغامرة العقل الأولى"، كتابٌ يشدُ قارئه لعالم الأساطير ليكون مدخلاً لِعوالم أخرى خلقتها أساطيرٌ مرت من آلاف السنين، وجسدها السواح في كتبه. هذا الكتاب الصادر في 1978 وكان منه ثلاث عشرة طبعة. دليلان على طليعية الكاتب في أعماله ونهم القُراء لها.
الكتاب: مغامرة العقل الأولى
المؤلف: فراس السواح
دار النشر: دار علاء الدين
نوع الكتاب: ورقي غلاف عادي
عدد الصفحات: 400