البيولوجيا والتطوّر > منوعات بيولوجية

لماذا يحدث الفُصام لدى البشر حصراً؟

تُعاني العديد من الحيوانات من أعراض بعض الاضطرابات النفسية، كالطيور والكلاب والخيول والدلافين، خصوصاً تلك التي تعيش ضمن مجموعات، حيث تظهر على بعضها علامات عدم الراحة، الهيجان، الغضب، التوتر، الحزن والاكتئاب وغيرها.. وإذا كنت من اولئك الذين يعيشون بصُحبة أحد الحيوانات، فلا بد أنَّك لاحظت نوعاً من هذه التغييرات التي تطرأ على الحيوان تماماً كالإنسان. ولكن هناك اضطراباً نفسياً يبدو شائعاً- بل ومحصوراً بين البشر لكنَّه لا يظهر لدى الحيوانات وهو الفصام- أحد الأمرض النفسية الذي يعتبر من أشدها و أخطرها تعقيداً..

فما السبب الذي يجعل الفُصام اضطراباً بشرياً وبعيداً عن الأنواع الأخرى؟

بدايةً دعونا نعرف ماهو الفصام (الشيزوفرينيا) :

الفصام هو اضطراب نفسي مزمن يعيش فيه المريض بشكل منفصل عن الواقع ضمن عالم من الأهلاسات(إحساسات يشعر بها المريض دون غيره)و/ أو التوهمات(أفكار يعتقدها المريض دون غيره) والانخداعات(تفسير خاطئ لشيء يجري حول المريض) ..مما يسبب ضعف شديد في أداء المريض لعمله وعدم مقدرته على متابعة حياته اليوميةبشكل فاعل.ويجب أن تستمر الأعراض ستة أشهر على الأقل حتى يتم تشخيص المرض.

-كم تبلغ نسبة انتشار الفصام بين البشر:

يصيب الفصام حوالي 7 من كل 1000 شخص. أي في مدينة تحوي 3 ملايين من السكان سيعاني 21 ألف شخص من هذا المرض.

الاكتئاب، الوسواس القهري، التوتر والقلق، كلها اضطرابات تمت ملاحظتها لدى العديد من الأنواع غير البشرية. أما الفُصام فهو اضطراب نفسي يصاب به الجنس البشري حصراً، الأمر الذي يطرح سؤالاً مهماً حول هذا المرض: لماذا لا يزال هذا شائعاً رغم كونه مُدمِّراً بل وقاتلاً في بعض الأحيان؟ وحيث أنَّ الدراسات تُشير الى أساس وراثي لهذا الاضطراب، لماذا لم يقم الانتقاء الطبيعي مع الزمن باستثناء الجينات التي تسبب الاستعداد الوراثي للفصام؟

في دراسة جديدة، حاول الباحثون استكشاف هذه الأسئلة، والسعي لمعرفة كيفية نشأة الفُصام عند الدماغ البشري، وحاولوا الإشارة أيضاً الى بعض الحلول الممكنة لهذا الاضطراب عن طريق فهم أفضل له، والنتائج التي توصلوا إليها تُشير الى أنَّ الفُصام قد يكون أحد التكاليف التي ندفعها -كجنس بشري- عن تطوُّر أدمغتنا وتعقيد وظائفها الإدراكية.

و قد اقترحت الدراسة أنَّ وجود الفصام بين البشر بشكلٍ شائع برغم كونه مُدمِّراً قد يعود لأسباب تطوُّرية معقدة ممكن أن تفسِّر استمراره حتى الآن ولدى الجنس البشري حصراً. لاستكشاف هذه الفكرة، قام العلماء بالتركيز بشكل خاص على مقاطع من الجينوم البشري تسمى (Human Accelerated Regions- HARs)- و هي أجزاء قصيرة من الحمض النووي البشري DNA لوحظ انحفاظها وعدم تغيرها لدى الأنواع الحية الأخرى، بل خضوعها لتغييرات كبيرة لدى الجنس البشري بعد انفصاله التطوري عن سلالة الشيمبانزي، و على ما يبدو فإن هذه التغييرات كانت ذات منافع كبيرة لصالح الجنس البشري.

شك الباحثون في إمكانية وجود علاقة بين ال HARs و الجينات المسؤولة عن مرض الشيزوفرينيا، فقاموا بمقارنة مع بيانات وأبحاث سابقة و وجدوا تجاوراً بالفعل بين المنطقتين على الجينوم البشري، مما يقترح إمكانية كون ال HARs منظماً لعمل الجينات المسؤولة عن الفُصام. عدا عن أن جينات الفُصام القريبة من ال HARs وجدت بأنَّها تقع تحت ضغط انتقائي إيجابي مقارنة بباقي جينات الفُصام الأخرى. وهذا يعني أنَّ هذه الجينات مهمة ومفيدة للنوع البشري بشكلٍ أو بآخر.

ولمعرفة أهمية هذه الجينات، تحوَّل فريق البحث لدراسة التعبير الجيني. ففي حين أنَّ التسلسل الجيني يُعرِّفنا على تسلسل جينوم الكائن الحي، فإنَّ التعبير الجيني يُمكِّننا من معرفة أين ومتى تتفعَّل جينات معينة لدى الكائن الحي.

وجد الباحثون أنَّ جينات الفُصام المرتبطة بال HARs تتواجد في مواقع من الجينوم بحيث تؤثر على جينات أخرى يتم التعبير عنها في الفص الجبهي – وهي منطقة دماغية تشارك في تنظيم عمل الوظائف العليا للدماغ، ويُعتقد أنَّ الخلل في هذه المنطقة يساهم في حدوث الفصام.

وقد وجدو أيضاً أنَّ هذه الجينات تساهم في العديد من الوظائف العصبية لدى البشر، ومن هذه الوظائف نقل النواقل العصبية GABA- التي تعمل على تثبيط عمل الدوبامين في مناطق محددة في الدماغ. والخلل في نقل هذه النواقل يعد سببباً من أسباب حدوث الفُصام. فالنشاط الغير الطبيعي للدوبامين و زيادته يعتبر من الأسباب الرئيسية في تطور الشزوفرينيا في الدماغ.

إنًّ نتائج هذه الدراسة تقدم تفسيراً مُحتملاً لسبب نشوء الفًصام لدى البشر ولماذا لا يحدث هذا الاضطراب لدى الانواع الاخرى. فمن المحتمل -بحسب أحد مؤلفي الدراسة- أن يكون نشوء الكلام واللغة لدى البشر ذو علاقة بتطور جينات الفصام. فعلياً فإنَّ الخلل في اللغة هو سمة من سمات الفصام، كما أن نواقل الGABA ضرورية للكلام، اللغة، والعديد من وظائف الدماغ العليا.

اختصاراً، فإن الفكرة المطروحة هي أن الشيزوفرينيا ما هي إلا تكلفة تطور الذكاء البشري وتطور الجينات المسؤولة عن الوظائف الإدراكية المعقدة لدينا والنواقل العصبية المنظمة لتلك الوظائف.

حرص مؤلفو الدراسة على عدم المبالغة في فهم الناحية التطورية لنتائج الدراسة، حيث علقوا: "من المهم أن نلاحظ أنَّ دراستنا لم تكن مُصمَّمة في الأصل لتقييم "المُفاضلة التطورية" للفُصام، ولكن في نفس الوقت فنتائج هذه الدراسة تدعم النظرية التي تقول بأنَّ تطور وظائف النطق والتفكير العليا لدى البشر كان لها بعض التكاليف ومن ضمنها الفُصام. ويضيف أيضاً بأنَّ هذه الدراسة لم تحدد "الجينات المباشرة المسؤولة" عن حدوث الفُصام، حيث لا تزال الخلفية الوراثية للفصام معقدة نوعاً ما".

إلا أنهم و بذات الوقت لا يزالوا يؤمنون بأنَّ التحليل التطوري يمكن أن يساعدنا في الوصول الى الجينات الاكثر تأثيراً في حدوث الفُصام وغيره من الاختلالات التي تتعلق بوظائف الدماغ العليا ومنها التوحد و داء قصور الانتباه وفرط الحركة.

المصادر

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا