علم النفس > المنوعات وعلم النفس الحديث
الطريق نحو القضاء على الخوف
عندما تُطفىء الأنوار، وعندما تشعر بعدها بأن أحداً يقف خلفك، تَسمعه وتشعر بأنفاسه في أذنك، وألّا تجده حين تستدير؛ ذلك هو الخوف. أن تنظر حولك وترى الأرض مكسوّة بالدماء والأشلاء، والألم هو الصورة الأخيرة التي تراها في العيون المفتوحة للأجساد الهامدة، ذلك هو الخوف. أن تكون اللّمسات والروائح والأصوات، أدوات تستحضر ذكرى أليمة بذلت الكثير لمحوها لكنها تأبى الزوال، ذلك هو الخوف. لكلّ منّا لحظات يقف فيها الخوف نداً له، إلا أنّه يشكّل للبعض عقبة تستحيل معها الحياة. ما هو السبيل إلى التخفيف من معاناة هؤلاء؟ التفاصيل في المقال التالي.
هل لك أن تتخيل مدى صعوبة الحياة حين يشكل الخوف والقلق عائقاً ملازماً في كل الظروف؟!
يمثل اضطراب ما بعد الصدمة PTSD أحد هذه الحالات: وهو اضطراب نفسي ينشأ عند التعرض المباشر أو الغير المباشر لصدمة معينة، كالكوارث والحروب والاغتصاب وغيرها. هذا المرض حقيقيّ، ويعاني المصابون به من أزمات منهِكة من الخوف العارم. وكذلك الأمر بالنسبة للمصابين باضطرابات القلق، حيث يلازم هؤلاء شعور ثقيل من القلق والخوف لدرجة يعيق فيها العيش بشكل طبيعي.
إحدى الطرق القياسية المستخدمة لعلاج حالات مشابهة هي "تقنية تبديد الخوف" fear extinction therapy، وفيها يتم تعريض المريض باستمرار لمؤثرات تثير القلق لديه إلى أن يعتاد عليها فتصبح غير مثيرة للتوتر بعد ذلك. والجديد في الأمر هو دراسة قامت بإرفاق هذه التقنية بتطبيق هرمون الأكسيتوسين عن طريق الأنف لدى 62 رجل على أمل أن يقوم ذلك بتبديد مخاوفهم، وقد حصل ذلك فعلاً لمعظمهم.
يسمى هرمون الأكسيتوسين بهرمون الحب، وذلك لدوره في علاقة الأم بوليدها وفي الترابط الاجتماعي وفي العلاقة الجنسية، ويبدو أيضاً أن لهذا الهرمون خصائصاً مضادة للقلق. ويعود السبب في تميّز الأكسيتوسين بهذه الخاصية إلى كونه أنه يكبح نشاط المنطقة الدماغية المدعوة "اللوزة"Amygdala لدى الأشخاص المصابين باضطرابات القلق. فهذه المنطقة هي مركز الخوف الأساسي في البشر والثديات الأخرى، وتبدو كقطعتين لوزيتيّ الشكل من النسيج الدماغي وتتوضع عميقاً في أسفل الصدغ.
تنشط اللوزة عادة كاستجابة لمؤثر من المحتمل أن يشكل حافزاً مهدداً، وحين يتضح أنّ هذا المؤثر ليس خطِراً حقاً (كانفجار بالون على سبيل المثال)، فإن قشرة الفص الجبهي من الدماغ prefrontal cortex تقوم بكبح نشاط اللوزة عند تكرار التعرض لهذا المؤثر. لكن في حال تكرار التعرض لخطر حقيقي أو في حالة شخص يعاني من اضطراب القلق ويرى المؤثر خطِراً على الدوام، فإن نشاط اللوزة لا ينخفض وحينها تتكون الذكريات عن اللحظات المخيفة بشكل أسهل.
لدراسة آثار الاكسيتوسين على تطور الذكريات المخيفة؛ قامت Monika Eckstein وزملاؤها من جامعة بون University of Bonn بإخضاع المشاركين في التجربة لأثر التكيّف مع الخوف لبافلوف (طريقة لتعليم الكائن الحي على التنبؤ بقرب الأحداث التي تثير خوفه)، حيث اقترنت العوامل الحيادية في التجربة (صور لأشخاص ومنازل) بصدمات كهربائية في بعض الأحيان. وبعدئذ تمّ تعريض الخاضعين للتجربة إلى جرعة أنفية واحدة، إما من الأكسيتوسين أو من البلاسيبو (مادة لا تحتوي على عنصر دوائي). وبعد ذلك بـ30 دقيقة، تمّ إجراء تصوير وظيفي بتقنية الرنين المغناطيسي MRI بالتزامن مع تطبيق تقنية تبديد الخوف fear extinction therapy، وهنا تمّ عرض الصور مجدداً ولكن بدون الصدمات الكهربائية.
أظهر التصوير لدى الأشخاص الذين تلقوا جرعة الأكسيتوسين نشاطاً متزايداً للقشر الجبهي prefrontal cortex -المنطقة المسؤولة عن السيطرة على الخوف- وانخفاضاً في نشاط اللوزة، وذلك عند رؤية الصور التي اتضح أنّها لمْ تَعُد مخيفة في هذه المرحلة، والتي تمّ تكييف الخاضعين للتجربة ليروها مخيفة في السابق (أي في مرحلة تطبيق أثر بافلوف). وانخفضت أيضاً المظاهر (التعابير) الجسدية للخوف -نقصد بذلك التعرق- لدى المجموعة التي خضعت للعلاج بالأكسيتوسين.
وهكذا تقترح النتائج أن مجرد جرعة واحدة من الأكسيتوسين ستقوم بتحسين عمل التقنيات المعتمدة على إزالة الخوف بشكل فعال. تقول Eckstein: إنّ إعطاء التعليمات بشأن الاستعمال السريري للأكسيتوسين هو أمر مبكر جداً، وعلى كل حال ما زال البحث جارياً حول الدور العلاجي للأكسيتوسين في اضطرابات مختلفة مستقبلاً. وقد أظهرت دراسة نُشرت السنة الماضية بواسطة Acheson -رغم أنها اعتمدت على الملاحظة بدلاً من نتائج صور الرنين المغناطيسي- أن الأكسيتوسين المطبّق عن طريق الأنف يسهل عملية تبديد الخوف لدى البشر، ويخفف من نشاط اللوزة في حالات اضطراب القلق الاجتماعي، ويتم البحث بشأنه كعلاج محتمل لاضطراب ما بعد الصدمة.
يقوم العلماء بدراسة عدد من الطرق الواعدة لتخفيف الخوف، ومن ضمنها تقنيات علاجية تعتمد على الفهم المتقدم للخوف والقلق على المستوى الجيني. إنّ الجين المرمز لمركب يدعى BDNF (عامل التغذية العصبية المستمد من الدماغ) -والذي يُشارك في النمو العصبي، والبقاء والنقل العصبي، وكلّ ذلك يلعب دوراً في ذكريات الخوف وتبددها- قد يكون مهماً بشكل خاص. ترتبط إحدى نسخ هذا الجين بالفئران الخجولة، فالفئران الحاملة لهذا الجين انطوائية جداً، وهي تُفضل قضاء الوقت ملاصقة لجدران القفص بدلاً من الاختلاط بالقوارض الأخرى الموجودة حولها. يُقال بأن البشر الذين يمتلكون هذه النسخة الجينية لا يتبدد الخوف لديهم بالسرعة المناسبة عند تكرار عرض إشارة تثير الإجفال في البداية لكنها غير خطرة (كانفجار البالون).
يرى Raül Andero Galí -باحث مشارك- أن الطرق المعتمدة على BDNF لإزالة الخوف هي طرق واعدة في مجال فهم القلق وعلاجه. تتمكن كميات صغيرة فقط من BDNFمن عبور الحاجز الدموي الدماغي، لذا وفي هذه اللحظة، لا يوجد علاج يعتمد على المركب بحد ذاته. ويُشير عمل Galí إلى أنّ المُركب الذي يقلّد عمل BDNF في الدماغ قام بمساعدة الفئران في التغلّب على الخوف من عوامل معينة بنجاح، وعلى وجه التحديد، من صوت كان يرتبط بصدمات على أقدامها، ولا يزال البحث في مجال العلاج المعتمد على جين BDNF جارياً.
يقول Galí: يزوّدنا الـBDNF بآثار فعالة في إزالة الخوف لم يراها مسبقاً، وعلى كل حال فنحن بحاجة لأن نختبر فعالية هذه التقنية وأمانها على البشر. وأشار Galí أيضاً إلى أنّ العقار الذي يوّقف عمل جين Tac2 -الذي يُعتقد أنّه يلعب دوراً في إزالة الخوف- يُخفف من تخزين الذكريات السيئة لدى الفئران؛ مقترحاً بذلك دوراً علاجياً ممكناً في اضطراب ما بعد الصدمة PTSD، وهذا الاضطراب النفسي فريد من نوعه، فنحن نعلم عادة وقت حدوثه، وبذلك قد نستطيع إعطاء الدواء بعد فترة قصيرة من الحادثة (الصدمة) للوقاية منه.
بينما لا يزال وصف نظائر BDNF وTac2 بعيد المنال على الأرجح؛ فإن علاج حالات القلق والخوف كاضطراب القلق الاجتماعي واضطراب ما بعد الصدمة بمزيج من الأكسيتوسين وتقنية تبديد الخوف fear extinction therapy يبدو أمراً ممكناً جداً، وربما يسمح بترك العلاج الدوائي والنفسي تماماً.
يحمل أمر تمويه الذكريات بعضاً من المجازفة، ماذا لو استُخدمت هذه التقنيات العلاجية لمحو ذكريات سيئة ربما، لكنها ليست مرضية؟ فلنقل مثلاً، ذكريات حزينة أو تتعلق بعلاقة ساءت يوماً ما؟ ليست Eckstein قلقة جدا بهذا الشأن، فهي لا ترى احتمالية لسوء استخدام هذه التقنيات. في هذا السياق كتب Joseph LeDoux أن الذكريات العاطفية -السعيدة منها، والمشوقة والمخيفة- يتعذر محوها. بدلاً من محو الذكريات السيئة في الواقع، نحن ننسى كيف نسترجعها أو نتعلم كيف نستحضر ذكرى أكثر سعادة بدلاً منها. وكما وضحت Eckstein؛ قد يحدث النكس في مريض باضطراب القلق كان قد تعلم بنجاح كيف يستدبل الخوف بشعور إيجابي أو محايد، فالذكريات المخيفة تبقى مخزنة هنا أو هناك في مكان ما من الدماغ، لكننا نأمل من التقنيات العلاجية الجديدة أن تجعل من استرجاع هذه الذكريات أمراً أكثر صعوبة.
المصدر: هنا