التاريخ وعلم الآثار > الحضارة السورية
سبر أغوار الحضارة السورية ... أوغاريت كما لم تشاهدوها من قبل، الجزء الثاني: الكتابة الأوغاريتية
تحطُّ قافلة رحلتنا التاريخية على أرض أوغاريت، عند شواطئ الإنجازات العظيمة التي شكَّلت العمود الفقري للإرث الحضاري الانساني.
بحث العقل الأوغاريتي عن بروتوكول فكري للتواصل تواصلًا موثقًا ومكتوبًا في زمن نُعِتَ بالبدائية، فكانت الثمرة أبجدية بعطرٍ أوغاريتي، إنها البداية العظيمة لتقدم وتطور الحضارات الإنسانية على الرغم من كل الظروف الشعائرية.
أشارت الاكتشافات في رأس شمرا إلى تطور المجتمع ثقافيًّا، وذلك عن طريق الأضابير المكتشفة التي كانت مكتوبة بانتظام وتصنيف بعناية فائقة؛ فكان دليلًا على أن الكنعانين هم أسمى من كونهم مجرد رجال تجارة وتبادل ملاحة كما الاعتقاد السائد حتى يومنا هذا.
لقد شغلت الكتابة اهتمامات مثقفي أوغاريت فشجعوا على التعليم، واهتمُّوا بتعليم تلاميذهم عن طريق علاقة خاصة ومميزة بين الكتاب (المعلم) والتلميذ؛ فنجد الدلالة على الكلام السابق عنطريق اكتشاف نصٍّ يحمل صلاة كتبت بصيغة رسالة موجهة من كاهن إلى أحد الآلهة، وممَّا جاء فيها "للقضية التي استعطفَك من أجلها لا تظهر في عظمتك عدم الاهتمام بهذا التلميذ الفتي الجالس أمامك لا تظهر عدم الاهتمام في فن الكتابة، أي سر اكشف له: العد أم المحاسبة أم أي حل اكشف له الكتابة السرية، اكشف له إذن !... القصب المبري والجلد والدهن والفخار أعطِ ذلك الفتى إذن من كل ما يتصل بفن الكتابة، لا تهمل شيئًا".
لكن في أوغاريت لم يكتشف- كما هو الحال في ماري- عن صف ومقاعد ولم يكتشف فروض كتبها التلاميذ ودققها مدير المعهد- كما هو الحال في إيبلا- ولكن يوجد كثير من الشواهد التي تدل على الأنشطة المدرسية المكثفة وإذا لم يجرِ ذلك النشاط بالضرورة في أماكن مخصصة للتعليم؛ فلدينا أكثر من قرينة تبرهن على أن التعليم كان في القاعات المعدة للأضابير والمكتبات؛ إذ إن معظم الوثائق قد وجدت في تلك القاعات، وهكذا فقد جمعت من الديوان الغربي للأضابير في القصر الملكي عدة أقلام كانت تستخدم لحفر الإشارات المسمارية فوق رُقم الفخار، وعثر على تمرين مدرسي يتضمن حروف تفصل بينها خطوط صغيرة عمودية ثم كلمة مركبة من تلك الحروف أيضًا؛ فيمكننا التخيل هنا بأنَّ المعلم كان يعطي التلاميذ تلك الحروف وعليهم أن يؤلفوا منها كلمة.
إن علماء الخطوط واللغات القديمة يعرفون اليوم بسهولة ما إذا كانت الرُقم المسمارية من نقش يد ماهرة ومدربة أو أنها من صنع يد قليلة الخبرة.
وقد كانت الكتابة صعبة جدًّا وشاقة على الكاتب الذي يريد التدوين؛ فالكتابة المصرية الهيروغليفية تمثل الإشارة فيها كلمة كاملة أمَّا الكتابة في بلاد الرافدين كان كل شكل فيها منذ 2500 ق.م يمثل مقطعًا صوتيًّا كاملًا، ونجد في الكتابتين مئات الأشكال المكتوبة مما يجعل استخدامها عسيرًا وشاقًّا.
ومع ذلك فقد كان أهل أوغاريت على الدوام يحملون بين أيديهم نصوص باللغة الأكادية التي كانت آنذاك اللغة المنتشرة في الشرق الأدنى بالكامل؛ أي لغة العصر كما هو حال اللغة الإنجليزية الآن في عصرنا. وها هي الألف سنة تدور دون أن يخطر على بال أحد إمكانية إيجاد كتابة يمثل فيها كل شكل حرفًا واحدًا بدلًا من تمثيل مقطع صوتي، وتلك هي القاعدة البسيطة التي نهضت عليها جميع الأبجديات الحديثة.
لقد رسخ في اعتقاد الكَتبة أن الحرف الجامد على ارتباط لا فكاك منه مع الصوت الذي يأتي بعده، وكان المقطع الصوتي على ذلك يمثل عنصرًا ثابتًا غير قابل للتجزئة، وكان ولا شك قد راود البشرية آنذاك حلم التخلص من القيم المقطعية التي كانت تجعل الكتابة على درجة كبيرة من التعذر، لكن هذا الحلم قد تحقق على يد شخص نجهل اسمه قدره أن يعيش على الشاطئ السوري في القرن الرابع عشر قبل الميلاد.
إن هذا الابداع ولا شك يدل على عبقرية وعلى ملَكة تجريد عظيمة أتاحت ولادة أبجدية في غاية من التبسيط تحوي ثلاثين حرفًا فقط، وهي أول أبجدية مسمارية في العالم ذات نظام قواعدي متكامل.
أمَّا أبجدية جبيل؛ فجميع الاكتشافات تشير إلى أقدم نص فيها يعود إلى الألف الأول قبل الميلاد. ولسهولة التعليم رتب كاتب من أوغاريت الأحرف الأبجدية في تسلسل دائم لا يتغير، والمثير هنا أن هذه الأبجدية أخذت ترتيب أبجد وأن أطفال اليوم في عدد كبير من بلدان المعمورة يتعلمون استظهار الأبجدية بالطريقة نفسها التي اختارها لها الكاتب من أوغاريت منذ أربعة وثلاثين قرنًا.
اكتُشِفت مجموعة من رقم الأبجدية؛ سنتحدث عن بعضها في عرض مختصر:
يوجد بينها خمسة رُقم نقشت فيها الأبجدية مرة واحدة دون وجود أي نص؛ فتلك التي كُتِبت بخط جميل كانت دون أدنى شكٍّ بمثابة رُقم نموذجية أعدها الكتبة للتداول بين أيدي التلاميذ، أمَّا تلك التي تتراوح بين الجودة والرداءة فهي تشير إلى أنها من صنع كتبة مستجدين يبذلون جهدهم في إعادة رسم الإشارات، ونصل بعدها إلى رقيم سادس لا يحمل إلا الأحرف الستة الأولى فهي على ما يبدو وظيفة لم تكتمل لسبب أو لآخر.
ولدينا رقيمان أيضًا يشهدان بوضوح تام أنهما لكاتب مستجد منهمك في التدرب على حسن الخط؛ فنرافق الكاتب في اللوح الأول وهو يعيد نسخ الأحرف العشرة الأولى سبع مرات، وبعد أن زادت ثقته بنفسه راح ينسخ جميع الإشارات دَفعة واحدة.
ثم نتأمل الرقيم الثاني؛ فنجد في قسمه العلوي إشارات الأبجدية مكتوبة بيدِ معلم موزعة في سطرين؛ في الأول منهما اثنان وعشرون حرفًا، وفي السطر الثاني ثمانية؛ في حين نجد في القسم السفلي أن التلميذ بسبب شروده أو سذاجته نسخ الأحرف الثمانية من السطر الثاني من القسم العلوي.
بعد ذلك نصل إلى لوح مثير للفضول هو: إمَّا مسودة وإمَّا نموذج مخصص للكتبة المكلفين بالمراسلة؛ إذ نجد إضافة إلى الحروف الأحد عشر الأولى من الأبجدية؛ عبارات التمني المنقوشة في الجانبين وغالبًا ما نشاهدها في رسائل رأس شمرا (فلتحفظك الآلهة، فلتنقذك ... !، فلتتحقق أغلى الأماني، برضى الآلهة، لأخي لصديقي).
ونلاحِظ فعل "أعطى" مكرر ست مرات بصيغ مختلفة أيضًا، وهنالك رقيمان نجد فيهما إضافة الى نصٍّ أكادي عدة محاولات لكتابة الأبجدية.
ونذكر لكم أخيرًا رقيم رُتبت فيه أبجدية أوغاريت في أعمدة، ويوجد مقابل كل حرف المقطع الصوتي الأكادي المطابق له.
إنه دون شك جدول وضع لخدمة الكتبة المكلفين بالترجمة من الأوغاريتية إلى الأكادية والعكس، وكذلك يسمح لنا هذا اللوح بالتحدث عن معارف كَتبة أوغاريت واطلاعهم على اللغات الأجنبية وكفاءتهم في ميدان الترجمة .
الصورة: رقيم يظهر أبجدية أوغاريت يُقرَأ من اليسار إلى اليمين معروض في متحف دمشق الوطني
المرجع: سعادة، جبرائيل (1987) أبحاث تاريخية وأثرية. دمشق: دار طلاس.
ولمن فاته الجزء الأول: