الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة السياسية
مفهوم المواطنة
تعرف المواطنة اصطلاحيّاً بحسب "دائرة المعارف البريطانية" بأنّها: "علاقة بين فرد ودولة كما يحدّدها قانون الدّولة، وبما تتضمّن تلك العلاقة من واجباتٍ وحقوق في تلك الدّولة". وتعرّفها "موسوعة كولير الأميركيّة" بأنّها: "أكثرُ أشكالِ العضويّة في جماعةٍ سياسيةٍ اكتمالاً". فماهي مقومات المواطنة؟ وماهي حقوقها وواجباتها؟ ولماذا تبرز أهمية وجود ثقافة المواطنة أثناء حدوث اختلالات في الأمن داخل الدولة؟ هل المواطنة نمط عيش يكتسبه الفرد فطرياً وتعدّ جزءاً لا يتجزأ من شخصيته القانونية لمجرد وجوده في دولة ما واكتسابه جنسية هذه الدولة، أم يمكن اعتبارها جزءاً من ثقافة سياسيّة واجتماعيّة وقانونيّة يقوم الفرد باكتسابها؟ وكيف يمكننا أن ننشر ثقافة المواطنة؟ وماهي العناصر التي تعمل على سيادتها في المجتمع؟ كل هذه التساؤلات والتي تشيرالاجابات عليها إلى الاختلافات القائمة بين الدول المتقدمة والمتخلفة، سنوردها في مقالنا هذا.
إنّ مفهوم المواطنة الّذي صِيغ ومُورِس بشكله ومضمونه الحاليّ لم يأتِ من العدم، فقد مرّ بمحطّاتٍ تاريخيّة على مرّ العصور حتّى استقرّ على ما استقرّ عليه الآن. وفي معظم الأحيان لم يكنْ يُعرف بالمواطنة بل كان بتسمياتٍ وصيغٍ وممارساتٍ مختلفة، تماشتْ وحال المجتمع المدنيّ وطبيعة النّظام السّياسيّ، الّذي ساد في كلّ حقبة. وبالرّغم من اختلافِ التّسميات والمناهج والمبادئ الّتي كوّنت لحالة المواطنة، ولكن تعتبر البادرة الأولى الّتي دفعت الإنسان للتفكّر بهذه الحالة وبلورتها، هو سعيه نحو الإنصاف والعدل والمساواة، وكذلك حقّه في المشاركة بمختلف مجالات الحياة، وحقّه في اتّخاذ القرارات. كانت مدينة أثينا نموذجاً واضحاً تكرّست فيه المواطنة، وذلك في العصور القديمة. وعلى الرّغم من القصور والإشكاليّات في تطبيقه، استطاعتْ أثينا إرساء مبادئ العدالة والمساواة بين مواطنيها، وإشراكهم باتّخاذ القرارات، وحقّهم بحضور الإجتماعات التي كانت تُعقد في ساحةِ المدينة أمام الملأ. وتراجعَ مفهوم المواطنة في الفكر السّياسيّ في العصور الوسطى، ولم يرجع اهتمام الفكر السّياسي بمبدأ المواطنة حتّى حلول القرن الثالث عشر، حيث تم صياغة مبادئ واستنباط مؤسسات وتطوير آليات ساهمت بتأسيس وتنمية نظمِ حكمٍ قوميّة مقيّدة السّلطة من خلال حركات الإصلاح. ويمكننا رصد ثلاثة تحوّلات كبرى متداخلة ومتكاملة مرّت بها التّغيّرات السّياسيّة الّتي أرست مبادئ المواطنة في الدّولة القوميّة الدّيمقراطيّة المعاصرة، هو تكوين الدولة القومية، والمشاركة السياسية، وإرساء حكم القانون وإقامة دولة المؤسسات. وبهذه التحولات الّتي تمّت عبر سبعة قرون، تم إرساء مبدأ المواطنة في دائرة الحضارة الأوروبية. ومع تشكل الدولة القومية الأوروبية الحديثة، التي أعطت لنفسها السيادة المطلقة داخل حدودها ومن أجل منع استبداد الدولة نشأت فكرة المواطن الذي يمتلك الحقوق غير القابلة للأخذ والإعتداء والتي أكد عليها الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان 1789 وقسمت هذه الحقوق إلى حقوق مدنية وأخرى جماعية كالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحقوق السياسية. وعاد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948 ليدعّم ما جاء عليه سابقه، فقد نص على مجموعة من الحقوق الواجبات نذكر منها:
- الحقوق الفردية والشخصية: وتشمل حق الحياة، والتمتع بحماية القانون دون تمييز، حق اللجوء السياسي، حرمة المنزل، حق التنقل، منع الإعتقال أو النفي التعسفي، حظر الأعمال والممارسات التي تحط من قيمة الإنسان وكرامته كأعمال التعذيب.
- الحقوق السياسية: وتتمثل هذه الحقوق بحق الانتخابات في السلطة التشريعية والسلطات المحلية والبلديات والترشيح، وحق كل مواطن بالعضوية في الأحزاب وتنظيم حركات وجمعيات ومحاولة التأثير على القرار السياسي وشكل اتخاذه من خلال الحصول على المعلومات ضمن القانون والحق في تقلد الوظائف العامة في الدولة والحق في التجمع السلمي.
- الحريات العامة والحقوق الأساسية: تشمل حرية الفكر والمعتقد والصحافة، وحق تشكيل الاجتماعات، وحق الإنسان بالمشاركة في إدارة شؤون العامة للبلاد، وتقلد الوظائف.
- الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية: حق الملكية، الضمان الاجتماعي، العمل، العلم، التأمين ضد الطالة،الصحة، حماية الأمومة والطفولة.
إلى جانب الحقوق هناك واجبات ملقاة على عاتق المواطن، فيقسم الباحثون مسؤوليات المواطن تجاه وطنه إلى نوعين وهي مسؤوليات إلزامية وأخرى طوعية. فالمسؤوليات الإلزامية، تكون مفروضة على الفرد من قبل الدولة كالضرائب و الخدمة العسكرية والالتزام بالقوانين التي تفرضها الدولة والتقيد بها واحترامها. أما المسؤوليات الطوعية، هي التي يقوم بها الفرد لوحده دون وجود قوة قانونية تملي عليه ما يفعله كالنقد البناء، المساهمة في إلغاء الجهل، والحفاظ على الوحدة الوطنية وغيرها.
فإن المواطنة هي تجسيدٌ لشعب يتكوّن من مواطنين يحترم كل فرد الآخر ويتحلّون بالتسامح تجاه التنوع المجتمعي. ومن أجل تجسيد هذه المواطنة، على القانون أن يعامل كل أعضاء المجتمع على قدم المساواة بصرف النظر عن انتمائهم القومي أو طبقتهم الاجتماعية أو جنسهم أو عرقهم أو ثقافتهم أو أي وجه من أوجه التنوع، وعلى القانون أن يحمي ويعزز كرامة واستقلال وحرية الأفراد. وأن يقدم الضمانات القانونية لمنع أي اعتداء على الحقوق المدنية والسياسية وعلى القانون أن يمكن الأفراد من أن يشاركوا بفاعلية في اتخاذ القرارات. فالمواطنة تشكل جزءاً من ثقافة لها منهجيّتها وأسسها وقواعدها ولابدّ من تعلمها. ومن أهمّ عناصر بنية ثقافة المواطنة:
ـ القيم: إنّ مضمون المواطنة يقوم على مجموعة من القيم والمبادئ والأساسيات الإيجابية والأخلاقية؛ وبذلك فالمواطنة تشكل نسقاً من القيم تتفاعل فيما بينها من جهة، ومن جهة ثانية تتفاعل مع خارجها من القيم الأخرى، وهي قيم تتحرك نحو المواطن والوطن والدولة والبيئة والكون لشد لحمته، ومنها قيم المساواة والعدل والحوار والوحدة في نوع من التكامل والاندماج في المجتمع من أجل إغنائه وتطويره.
هذه القيم تحيط ممارسة الحقوق والواجبات بإطار أخلاقي لا يسمح بالتجاوزات في الممارسة مهما كان المنفذ للمواطنة أو المستفيد منها، كما تضمن عدم انتهاك الحقوق والواجبات بل تدعو إلى احترام القوانين والتشريعات والرموز المختلفة المعبرة عن الذات والآخر والدولة لأن قيم المواطنة تصبح قيم ذاتية ومكون من مكونات الشخصية الفردية والجماعية للمواطن، فثقافة المواطنة لا تعني فقط المعرفة التامة بمجموع القيم المكونة لها، وإنما هي الوعي بأهميتها والاقتناع بفاعليتها.
ـ الاكتساب: لا يمكن للمواطنة وقيمها أن تقوم دون اكتسابها عبر التربية والتنشئة عليها بمختلف الوسائل والطرق، وهي كثيرة بدءاً بالأسرة وانتهاء بالمدرسة ومروراً بوسائل الإعلام والتكنولوجيا والإعلاميات ومؤسسات المجتمع المدني. فالأسرة بصفتها المؤسسة الأولى في التنشئة يقع عليها دور كبير في ترسيخ مفهوم المواطنة لدى الأبناء من خلال توجيههم إلى احترام الأنظمة والقوانين وتوجيه سلوكهم.
وتلعب المدرسة أيضاً دوراً في إكساب النشء هذه القيم من خلال المواقف التعليمية والتربوية، ويتحدد دورها من خلال وجود إدارة تربوية تعي مفهوم التربية الحديثة، وتمارس أسلوب ديمقراطي في قيادة المدرسة وتعمل على خلق بيئة تعليمية فاعلة من خلال نسج علاقات تواصل إنسانية وتربية مع المعلمين والمتعلمين على حد سواء. كما نجد بجانب المدرسة مؤسسات المجتمع المدني، التي تشتغل في مجال المواطنة وفي مجال حقوق الإنسان باعتبارها مؤسسات أهلية يفترض بها أن تكون قريبة من الناس وتعمل على تمكين الأفراد من التعبير عن مطالبهم ، والدفاع عن حقوقهم وتفعيل مشاركتهم الجماعية في تحقيق متطلباتهم.
ـ الممارسة: لا معنى للمواطنة من غير ممارسة فعلية لها على أرض الواقع، لأن الممارسة هي التي تعطيها القيمة، حيث تصبح بدون ممارسة ترفاً فكرياً لا فائدة منه، وهذه الممارسة هي الضامن الوحيد للدخول إلى دلالة دولة الحداثة والديمقراطية .
هذه كانت أهمّ المحطات التي لابد من الوقوف أمامها وإلقاء النظر عليها واستكشافها.
أن تكون مواطن يعني أن تعلم ما لك وما عليك، لأن المواطنة قابعة في أقداسنا بشكلٍ أو بآخر ومنذ أمد عتيد. وكما قال أرسطو منذ آلاف السنين المواطن الصالح خير من الفرد الصالح.
المصادر:
- علي خليفة الكواري، مفهود الديمقراطية في الدول الديمقراطية، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية،2001.
- علي خليفة الكواري، مفهوم المواطنة في الدول الديمقراطية، 2000.
- علي وتوت، في مفهوم المواطنة وحقوق الإنسان، الحوار المتمدّن، 2006.
- أمين فرج شريف، المواطنة ودورها في تكامل المجتمعات التعددية، مصر، دار الكتب القانونية، 2012.
- د.عصام عبدالله، ملتقى الحوار للتنمية وحقوق الإنسان، مركز ماعت للدراسات الحقوقية والدستورية.
- علي ليلة، المجتمع المدني العربي- قضايا المواطنة وحقوق الإنسان، القاهرة، مكتبة الأنجلو مصرية،2007.
- عبد العزيز قريش، مفهوم المواطنة وحقوق المواطن، 2008.
مصدر الصورة: