الفنون البصرية > فن وتراث
الطعام.. لذّةٌ حسّيةٌ ومتعةٌ بصريّة .... رحلةٌ بين أطباق العصور الوسطى
عندما يتمُّ الحديثُ عن الطعام في العصور الوسطى فإن ما يخطر في بال معظمنا أنه كان طعاماً كئيباً عديمَ الطعم، أو أنّه كان يُقدّم بطريقةٍ همجيّةٍ دون أيّة أوانٍ أو أدوات، لكنّه على العكس تماماً، كان طعاماً محضّراً بعناية، كثيرَ التوابل، وغالباً ما يُقدّم بطريقة أنيقة تفتحُ الشهيّة
وعلى الرّغم من أنّ أدوات الطعام لم تكن شائعة في ذلك الزمان، إلّا أن السكاكين كانت تُستخدَم بشكل واسع، حتّى أنّ شعوب العصور الوسطى اعتادوا على حمل سكاكينهم الخاصة في الحفلات والموائد التي يُدعوْن إليها، وإن اختلف شكلُها بالطّبع عن سكاكين المائدة المستخدمة في عصرنا، فقد كانت نفس السكّين تُستخدَم للأكل والقتال على حدٍّ سواء. أمّا الملاعق فكانت تُستعمل في حالات خاصة، والشوك نادراً
كما أنّ الاعتقاد بأن شعوب العصور الوسطى كانوا كائنات متوحّشة يمزقون اللّحم بأسنانهم وأيديهم العارية يفتقر إلى الدقّة بشكل كبير، فقد كانوا يتّبعون طقوساً وآداباً للمائدة، حيث يتمّ تحديد مكان الشخص على طاولة الطعام تبعاً لمكانته الإجتماعية، إضافة إلى اهتمامهم بالنظافة فقد كان لزاماً على الضيف أن يغسل يديه قبل الوجبات إما في غرفة مستقلّة مصمّمة لهذا الغرض أو بالقرب من غرفة الطعام، وذلك ليس فقط للدلالة على الكياسة وحسن التربية إنما ضماناً للصحة العامة أيضاً.
تميّز الذوق العام في العصور الوسطى بميله للنكهات الحادّة، فقد كان الطعام غنيّاً بخلطات مختلفة من التوابل الغريبة، وذلك بسبب المكانة الهامة التي تمتّعت بها أوروبا في تجارة التوابل خلال تلك الفترة، حيث كانت تصلها الأنواعُ المختلفة من دُوَلِها الأم عن طريق الرحلات البحريّة بطرقٍ صعبةٍ وبتكلفةٍ كبيرةٍ جدّاً، لذلك كانت توضع التوابل على الموائد بأوانٍ مزخرفة خاصّة بها لإظهار الثراء والمكانة الاجتماعيّة.
أكثر التوابل استخداماً: الفلفل الأسود والقرفة والزنجبيل والزعفران، إضافة إلى الخولنجان الشبيه بالزنجبيل والذي اختفى حاليّاً من المطبخ الأوروبي، كما أن القرنفل تمتّع بأهمية كبيرة لكن التكلفة الباهظة للحصول عليه جعلته أقل شيوعاً.
إكليل الجبل والبقدونس أيضاً من الأعشاب التي استُخدمت بشكلٍ واسع في مطبخ العصور الوسطى لكن لم يكن لهما نفس التقدير والاهتمام لكونهما إنتاج محليّ.
ممّا يدلّ على اهتمام شعوب العصور الوسطى بالطعام وعدم اعتبارهم الوجبات اليوميّة مجرّد عمليّةِ سدٍّ لحاجةٍ جسديّة أنّ العائلات الثريّة كانت تستعين بطهاةٍ محترفين لتحضير وجباتٍ غنيّةٍ بالنكهة بطرقٍ إبداعيّةٍ مميّزةٍ تبهر مخدوميهم وضيوفهم.
بشكل عام كانت ولائم القصور والبيوت الميسورة تتألّف من ثلاث إلى أربع مراحل، كلُّ مرحلةٍ تشمل أربعة إلى خمسة أطباق مع إمكانيّة تكرار بعضها، هذا التسلسل في تقديم الطعام يعود إلى الاعتقاد الطبّي الذي كان سائداً آنذاك بأنّه لا بدّ من التمهيد للمعدة بأطباق خفيفة قبل الوصول إلى الأطعمة الدسمة، وتختم الوجبة بشراب "هيبوكراس "Hippocrasوهو شراب يساعد على الهضم يتألّف من النبيذ الممزوج بالسكر والتوابل خاصة القرفة، يُحضّر بتمرير التوابل عبر منخل خاص يسمّى "منخل أبقراط manicum Hippocraticum" في إشارة واضحة إلى أبقراط، أبي الطب اليوناني
وبين مراحل الوليمة الأساسيّة تقدّم أطباق خفيفة أو مقبلات يمكن أن تكون صالحة للأكل أو مجرّد أطباق جماليّة لتزيين المائدة.
لتنفيذ هذه الولائم الكبيرة كان على الطهاة أن يستخدموا تقنيّات خاصة ليحصلوا على أطباق تكفي لإطعام أكبر قدرٍ ممكن من الضيوف مع المحافظة على المذاق اللذيذ والمظهر الشهي اللذين اشتهرت بهما ولائم العصور الوسطى، كل هذا يتطلّب من الطّاهي خبرة ومهارة وحسّاً فنيّاً.
أكثر المواد المستخدمة في هذه التقنيّات زيت اللوز والفيرجوس verjuice "عصير العنب المخمّر" والخبز، إضافة للخل الذي كان يستخدم أحياناً لإضفاء مذاقٍ لاذع على الطبق، وبالتأكيد لا يمكن لطاهي العصور الوسطى أن يهمل الصورة البصريّة للأطباق فقد كانت تزيّن بالتوابل وخاصة الزعفران لإضفاء لون ذهبيّ فاخر عليها مع إبقائها صالحة للأكل، لكن في بعض الأحيان كانت الرغبة بالتباهي تتغلّب على الطعم فتزّين بأوراق الذهب الخالص.
ممّا لا شكّ فيه أن أنواع المأكولات التي كانت سائدة في العصور الوسطى تختلف عن التي نتناولها في عصرنا الحالي، فأكثر الأنواع التي كانت شائعة آنذاك: سمك الجلكي وثعبان الماء "الأنقليس" والطاووس والبجع والحجل وبعض الطيور المغرّدة الأخرى، أما الألبان ومشتقاتها فكان يُنظر إليها بأنها مخصّصة للفلّاحين، وبالنسبة للأطعمة المحفوظة كالنقانق فكانت نادرة الاستخدام عند العوائل الميسورة القادرة على الحصول على اللحوم الطازجة بشكل دائم، والفواكه كانت حاضرة ولكن بشكل متواضع.
بالتالي فإن وجبة العصور الوسطى لا بدّ أن تكون شهيّة تجذب النظر قبل التذوّق بغضّ النظر عن نوع الأطعمة التي تحتويها.
المصدر: