التاريخ وعلم الآثار > التاريخ
صديق الجبل وعشيق المدينة: بردى ... كي لا تنسوهُ حتى في أيامهِ العسيرة، لا تردموه!
سمعت صوته في الأول من آذار، قادم من الجبل، يحمل معه أفراح العيد، ويجرف في طريقه أحزان الأراض وآثامها، يأتينا بعشقه الغامر ليُحضر لنا أجواء نيسان، لنحتفل، لنكون سعداء بمدينتنا، عاصمة بلاد الشام، دمشق، من مكانٍ بعيد في ريف دمشق، حيث يوصيه الجبل بأن يكون خلوقاً عند دخول المدينة العريقة في كل سنة، فيعصي الجبل ويدخلها في ضجيج عارم، إنه بردى المحبوب، ذلك الفتى الشقي الذي يأتينا في آذار من كل عام ليجدد جمال دمشق، ويغادرنا في آب ليعود مع الشتاء القادم، من نبع بردى إلى بحيرة العتيبة، كلنا نحبه، ولأبي قصص كثيرة عن رحلة بالدراجات الهوائية إلى ذلك المكان الذي ينطلق منه النهر، بيت النهر، نبع بردى، ولجدي قصصه الخيالية عن جنون بردى وفيضانه، هذا النهر يسجل ماضينا، يحفظ شخصيتنا، وبعد كل هذا يعلو صوت البعض مطالباً بردمه وإقصائه من حياة المدينة، كيف سيكون اسمها دمشق من دون بردى، لا، لا تردموه، إنه العلامة المميزة في مدينتنا، إذا كنت لا تعرف من يكون بردى فلا تتجرئ عليه.
يبلغ طول نهر بردى /60/ كم ويمتد ما بين نبع بردى في سهل الزبداني على ارتفاع /1102/ م عن سطح البحر و بحيرة العتيبة في سهل دمشق حيث يصب على ارتفاع /596/ م يتشكل الجريان المستمر لنهر بردى من مجموعة الينابيع أهمها نبع بردى و نبع الفيجة و تبلغ نسبة طاقة الفيجة الى نبع بردى الضعفين والنصف .
يقدر متوسط تصريف نهر بردى ب /12.5/ متر مكعب في الثانية في موقع الهامة حيث يرتفع إلى /65/ في موسم الفيضان شتاءً وينخفض إلى /5/ متر مكعب في موسف التحاريق صيفا ً. نهر بردى هو الشريان الرئيسي المغذي لواحة دمشق التاريخية وترتبط هذه الواحة بنهر بردى ارتباطا ً عضويا ً ، بمعنى أنه لولا بردى بمياهه الجارية العذبة لما كانت واحة دمشق في قلب هذه المنطقة الجافة الجرداء .
تتشكل واحة دمشق من : مدينة دمشق و ريف دمشق بقراها المتناثرة و أراضيها الزراعية و أهمها غوطة دمشق الخضراء المحيطة بالمدينة وبذلك تعتبر واحة دمشق منظومة بيئية متكاملة. اعتباراً من منطقة الهامة، وعلى بعد /6/كم من دمشق يتفرع عن نهر بردى تدريجياً مجموعة من الأقنية الرئيسية تمر هذه الاقنية في خانق الربوة على مناسيب مختلفة، ثم تتباعد على شكل مروحة تغطي جميع أحياء مدينة دمشق، وبعد خروجها من دمشق تنتشر في جميع مناطق غوطة دمشق مشكلة بذلك شرايين شبكة ري الغوطة .
تتفرع عن الضفة اليسرى لنهر بردى في مقدم مدينة دمشق قناتان رئيسيتان هما :
- قناة يزيد : تتفرع عن النهر شمالي الهامة، وبعد أن تجري على طول خط أعلى المهاجرين فالأكراد، حيث تروي البساتين ثم تتجه نحو القابون ثم حرستا ودوما. تم توسيع وتمديد هذه القناة في عهد الخليفة الأموي يزيد في عام 682 ميلادي .
- قناة تورى : تتفرع عن النهر في موقع القصر بين دمر والربوة وبعد أن تجري على طول خط أسفل المهاجرين، تتجه نحو سوق ساروجة فالعمارة والقصاع ثم تجتاز طريق دمشق – حمص في موقع جسر تورى، متجهة شرقا ً لري أراضي جوبر، عين ترما، حزة، زملكا، عربين، مسرابا، مديرة، دوما.
تتفرع عن الضفة اليمنى لنهر بردى، في مقدمة دمشق أيضاً أربعة أقنية رئيسية :
- قناة المزاوي : تتفرع عن النهر بين قدسيا ودمر، و تروي أراضي المزة وكفرسوسة .
- قناة الديراني : تتفرع عن المهر بين دمر والقصر في موقع الشادروان وتروي أراضي المزة قم كفرسوسة والنصف الشمالي من أراضي داريا.
- قناة القنوات : تتفرع عن النهر بين القصر والربوة وتدخل المدينة في باب سريجة ثم تسير باتجاه أحياء القنوات والشاغور وباب المصلى وتنتهي في أراضي بساتين الشاغور والقدم .
- قناة بانياس : تتفرع النهر في موقع الربوة، وتجري جنوبي ساحة المعرض، ثم تتجه نحو جامعة دمشق فشارع النصر والسنجقدار، ثم تتفرع إلى فرعين يتجه أحدهما إلى الشاغور فالميدان والآخر إلى العمارة فباب السلام وتنتهي في بساتين الشاغور .
- وتتفرع عن نهر بردى في مدينة دمشق قناتان رئيسيتان :
- قناة العقرباني : تتفرع عن الضفة اليمنى للنهر تحت ساحة المرجة وبعد خروجها من مدينة دمشق جنوباً، تروي أراضي جرمانا وعقربا وبيت سحم .
- قناة الدعياني : تتفرع من الضفة اليسرى للنهر في موقع الصوفانية في باب توما، وتروي أراضي جوبر، وعين ترما، كفربطنا، سقبا، حمورية، بيت سوا، جسرين ....
أمّا المدهش في الأمر والذي لا يعرفه الكثير من سكان دمشق أن جميع هذه القنوات حفرت بواسطة الانسان و أقيمت هذه الأقنية في دمشق تدريجياً منذ عهد الأراميين، وتطورت خلال العهود اللاحقة مع تطور الاحتياجات وتطور الحضارات .
يلاحظ بأن مناسيب مسارات الأقنية متطابقة مع الواقع الطبوغرافي لمدينة دمشق والغوطة، بما يؤمن جريان المياه فيها بالراحة وبالتصاريف المطلوبة. يبلغ استيعاب الأقنية الست المتفرعة عن نهر بردى في مقدمة دمشق /15/ متر مكعب في الثانية، ويختلف الاستيعاب والمقطع من قناة لأخرى مع تفاوت الاحتياجات التي صممت من أجلها هذه الاقنية في الأصل .
بنيت الاقنية في الأصل بالحجر والمونة ولها في بعض أجزائها جدران استنادية، و أقيمت على طول مساراتها أعمال صناعية من مآخذ وعبارات وسيفونات ومنافذ بما يتلائم مع توزيع المياه وتأمين جريانها وأيضا بما يتلائم مع أعمال الاستثمار والصيانة والإشراف على إدارة وتنظيم المياه. لن ندخل في موضوع خطوط الجر المتفرعة من هذه الأقنية وتوابعها لتأمين المياه المنزلية ضمن المدينة لأن ذلك يشكل بحث وموضوع قائم بذاته ومميزا ً لمدينة دمشق .
ثمة قاعدة في الأصل للأقنية في مرورها عبر دمشق : فهي مكشوفة على العموم وتبقى مكشوفة إلى أن تنعدم الحاجة لمياهها في تأمين المياه المنزلية وري الحدائق و بساتين المدينة. حيث تمر تحت الأحياء القديمة لتلقي مطروحات المجاري و هذه الحالية خاصة بأقنية الثنوات وبانياس والعقرباني في أحباسها حيث أراضي المدينة ولاسبيل قديماً إلى التخلص من مطروحاتها إلا بتوجيها لهذه الاقنية .
تشكل هذه الاقنية وما يتفرع عنها مشروعا هندسيا ضخما ً يدل على عظمة العطاء الهندسي وروعة وعراقة شعبنا . لكن هذه الاقنية لم يكن لديها وظيفة الري وتأمين المياه فقط بل كان لديها ميزات عديدة منها :
أولا : تأمين مياه الشرب الوفيرة و مياه الاستخدامات المنزلية .
ثانيا : تنظيف المدينة وري حدائقها والبساتين المتداخلة معها أوالمحيطة بها .
ثالثا : نشر الرطوبة النظيفة في جو المدينة و بالتالي خلق مناخ محلي لطيف .
رابعا : وبشكل محدود التخلص من المطروحات السائلة لبعض أجزاء المدينة القديمة و في أحباس نهائية مغطاة تمر تحت أحيائها .
هذه الصورة المتكاملة و المتوازنة هي وراء السر الكامن في مناخ مدينة دمشق و سعادة سكانها والظروف التاريخية التي أتاحت فرص العمران و الازدهار والبقاء والاخلال بهذه الصورة سيكون على حساب هذه المزايا التي تتمتع بها مدينة دمشق على مر العصور .
المرجع:
د. الصفدي ، محمد شفيق ، دمشق ابحاث تاريخية و أثرية ، مطبوعات المديرية العامة للاثار والمتاحف ، دمشق 1980