كتاب > روايات ومقالات
عزيز نيسين.. الكوميديا السوداء
"ثمة شيئان لا ننتجهما في بلدنا. القهوة، والديمقراطية. فنحن نستوردهما من الخارج، ماذا بوسعنا أن نفعل؟ فالقهوة لا تنبت عندنا، إذ لا شيء يناسبها هنا، لا المناخ، ولا الماء، ولا التربة. لذلك تركناها وشأنها. أما فيما يتعلق بالديمقراطية، فنحن نحرث الأرض بأنوفنا كي تنبت عندنا. تقول كتب التاريخ أنه منذ مئة عام تقريباً، رميت بذور الديمقراطية في تربتنا، ومنذ ذلك الوقت لا شغل لنا سوى الصراخ: ((براعم ديمقراطيتنا!.... ديمقراطيتنا الفتية!... )) إذاً فنحن ننبتها، نفعل كل ما بوسعنا، أما هي فلا تعطي سوى البراعم. آه ، لو أننا نوجه كل قوتنا في سبيل القهوة لكان بلدنا الآن كله أدغال قهوة. كان ينبغي علينا أن نفكر بشكل أفضل.. لكننا اتجهنا لزراعة الديمقراطية. هي ذي النتيجة... ما لنا ولهذه الديمقراطية! هل كانت حالنا سيئة بدونها؟ لكن عش بدون قهوة إن استطعت!.. إذ ليس بإمكانك أن تستعيض عنها بشيء آخر، فرأسك ستدور إن لم تشرب فنجاناً واحداً. والديمقراطية؟ كانت أم لم تكن فالأمر سيان.. ورأسك لن تدور. القهوة تعرف فوراً من رائحتها، فأنت تغليها، تشربها.. لكن الديمقراطية لا تؤكل ولا تشرب. و قد سأل سائل لماذا هي ضرورية لنا هذه الديمقراطية؟ فهي متوافرة عندنا بكثرة ومجاناً.. ولا يحتاج شراؤها للعملة الصعبة، فهي تتسلل إلينا عبر كل الشقوق. لكن أين القهوة؟ إنها غير موجودة، والحصول عليها يحتاج إلى نقود. لكن السيء في الأمر، هو أننا اعتدنا على القهوة. والعيش بدونها مصيبة، ويمكننا القول أننا اختصاصيون عظماء في القهوة، ولو سألت أياً منا: أي القهوة رديء، وأيها جيد، وأيها طازج، وأيها بائت، وأيها مغشوش، وأيها نقي فإنه سيحددها لك في الحال. ثمة محسنون، راحوا يدسون لنا قهوة اصطناعية، ففي البداية اخترعوا قهوة من الشعير فلم تنفع، ثم من الحمّص، ومرّة أخرى لم تنفع.. والآن يريدون أن يسقونا قهوة من بذور الفاصولياء، أما نحن فنقول لهم شكرا، إذا كنا لا نفقه في أمور أخرى ، فإننا في القهوة نفقه!.. سنبتلع كل شيء، أما القهوة الصناعيّة _ فلا أبداً. لو أننا نفقه في الديمقراطية كما في القهوة لكنا آنذاك..."
لا يستطيع القارئ للوهلة الأولى تحديد الإطار المكاني للقصة، أو تحديد الضمير الجمعي الأنا إلى من هو عائد في هكذا قصة قصيرة. فالنص هنا عابر للجغرافيا والمكان، كما هي هذه النحن والتي تجعل كلاً منا جزءاً من هذه العقلية ومن هذه البيئة القصصية لقصّة في أسطر.
كتب عزيز نيسين هذه القصة بالتركيّة لتنشر أوّل مرّة ضمن مجموعة قصصيّة تحت عنوان (أسفل السّافلين) ترجمة عبد اللّطيف عبد الحميد- صدرت عن دار الحصاد للنشر و التّوزيع للمرّة الأولى عام 1993.
محمد نصرت نيسين (1915-1995) هو الاسم الحقيقي لعزيز نيسين، حيث استخدم هذا الاسم كاسم مستعار ضد مطاردات الأمن السياسي التركي، وعلى الرغم من أن هذا الاسم المستعار لم يمنع من دخوله السّجن لمرّات عدّة، إلا أنّ هذا الاسم أضحى رمزاً من رموز الكوميديا السّوداء.
كتب عزيز نيسين القصة القصيرة كما الشعر، وأول ما نشر كان في مجلّة الأمّة اليمينيّة الصادرة عن أنقرة آنذاك، أما أشعاره فقد نُشرَت منذ عام 1937 تحت اسم وديعة نيسين في مجلة الأيام السبعة. كتب عزيز نيسين في الكثير من الصحف التركيّة، وفي عام 1946 تمكّن بالتعاون مع صديقه الأديب التركي صباح الدين علي من إصدار جريدته الشهيرة ماركو باشا، والتي أُغلقت لاحقاً واعتقل هو على أثر بعض مقالاته المنشورة فيها، لكنه عاود إصدارها تحت اسم معلوم باشا، وهكذا راح يعيد إصدار المجلة وتغيير اسمها مع كلّ مرة يتم فيها اعتقاله وإيقاف الجريدة عن الصدور.
عام 1950 حُكم عليه بالسجن ستّة عشر شهراً بسبب ترجمته لأجزاء من كتاب ماركس، وفي العام 1951 خرج من السجن لكنّه لم يجد عملاً في الصحافة، فعمد لفتح دكان لبيع الكتب لكنه لم ينجح، وبين العامين ( 1952 -1954 ) عمل مصوراً وفي العام 1955 اعتُقل من دون أن يَعرف سبب اعتقاله وأمضى بضعة أشهر في السجن.
مع تنوع القصص القصيرة التي كتبها عزيز نيسين وعلى الرّغم من عددها الكبير جداً، إلا أنها لم تخرج عن الإطار الاجتماعي السياسي، بل دارت في هذا الإطار، مقدّمة نقداً ذكيّاً جدّاً للواقع، من خلال تفاصيل مختلفة. لم يعتمد عزيز نيسين على أبطال خارقين، كما أنّ شخصيّة الأبطال لا تُعالج عنده من خلال وصفها الشّكلي أو الحركي في معظم الحالات، إنّما من خلال وجودها ضمن اللّقطّة الفنيّة التي يُحضّرها عزيز نيسين بشكل بارع جداً.
لا يصف عزيز نيسين شخصياته القصصية بإسهاب، كما أن الصّفات الشكليّة هي صفات ثانوية عادة لا تذكر إلّا لأهميّة خاصّة بها، كما فنان الكاريكاتور يَرسم نيسين شخوصه وأبطاله بصفات قليلة كما اسكتش صغير ،لكنه كافٍ لإعطاء صورة كافية عن الشخصية، بحيث يمكن للقارئ تجسيدها وإحياؤها في ذهنه فوراً. أيضا كما الكاريكاتير لا تتميّز القصص بمعظمها بحدث يكبر ويتعاظم أو بحبكة قصصيّة ماكنة، إنّما هو كنكتة أو كاسكتش بسيط يجيب عن الكثير من الأسئلة بأسئلة أخرى، كما في (لماذا نحن بلد ضعيف النّمو) حيث يأتي البروفيسور في علم الاقتصاد متوجها إلى تركيا لشرح مسألة لماذا بقيت هذه الدول متأخّرة، وعلى مدى عشر صفحات، لا نرى سوى المراسلات بين أعضاء فريق البحث والخبير المستر تشارلز أويتي، وتنتهي القصة بعودة المستر تشارلز إلى أمريكا بعد عامين، دون إمكانية اللقاء بأحد ما بسبب الأعياد المُختلفة (القومية والدينية والمناسبات الخاصّة) . على الرّغم من انتظارنا كقرّاء لذروة أو حدث يشرح لنا لماذا نحن بلد ضعيف النّمو، إلّا أنّ هذا الحدث لا يأتي، بما أن المسؤولين قفزوا بين الأعياد والمناسبات لمدة عامين متتالين. تَركُ هذا السّؤال مفتوحاً بحد ذاته، هو إجابة عن السّؤال نفسه.
من المُلاحظ أيضاً في هذه القصة كما في قصص أخرى، اعتماد نيسين على لغة الأنا، حيث أننا (نحن) الأبطال وليس هم (الشخصيّات القصصية) تماماً كما في مثال القهوة والديمقراطية، حيث أن المجابهة ليست ضمن فردين والقارئ هو ضمن الجمهور المشاهد، بل نحن أنفسنا أبطال هذه القصّة القصيرة، نحن الفقهاء في القهوة والديمقراطية على حدّ سواء. وفي حال لم نكن نحن الأبطال، يكون البطل هو القاصّ نفسه الّذي يشاركنا التّجربة المرّة أو المضحكة الّتي يمرّ بها، كما في قصص أخرى (أسفل السافلين، تعليمات للشّوّائين على قارعة الطّريق) وأخرى.
حاز عزيز نيسين على عدّة جوائز منها جائزة السعفة الذّهبيّة في المسابقة الدّوليّة التّاسعة للكتّاب السّاخرين في إيطاليا عام 1956، عن قصّته القصيرة ((كيف تمّ اعتقال حمدي الملقب بالفيل))، عندما قبض رجال الشّرطة على أعداد كبيرة من حمدي الفيل، إلى حد أن السجون امتلأت، وذلك بعد اغتنامه فرصة نوم شرطيين وهروبه ثم تعميم بيان من الأمن يرد فيه حرفياً: "في حال ظهور حمدي الفيل في أحد أقسام الشرطة التابعة لكم، أو إذا جاء لطلب وثيقة ما من أحد رجال الشرطة، تكرّموا بإخباره، أننا نرجوه ألا يضعنا في موقع حرج وأن يحضر مع المجرم إلى دائرة الأمن في استامبول، في أي وقت يراه مناسباً له".
على الرّغم من أنّ معظم أعماله مجموعات قصصيّة مختلفة تتراوح بين الصفحتين والعشرة إلا أن بعض أعماله يتكون من سلسلة قصص مترابطة ككتابه زوبك أو الفلهوي (الكلب الملتحي في ظلّ عربة)، و الّتي صدرت أوّل مرّة عام 1961، ثمّ تُرجمت إلى الألمانيّة عام 1965وقدّمتها إذاعة برلين كمسلسل إذاعي. كما تُرجمت إلى البلغارية وبلغ عدد النّسخ في أوّل طبعة 12000 نسخة. ينتقد هذا الكتاب المنتفعين من السلّطة كما النسيج الاجتماعي حولهم الّذي لا يُبدي رغبة في التّغيير، بل بالانتفاع حتى لو بالقدر المستطاع من المنتفع أو من السلّطة أيّا تكن.
يبدأ الكتاب بمَثلٍ قديم: "الكلبُ يمشي بجانب العربة فيظن ظِلّهَا ظِلّهُ"، مشكّلاً أوّل صورة لزوبك، المستظل بظلّ أكبر من ظلّه ظانّاً إيّاه ظلّه، وجاعلاً الآخرين يظنون أنّه ظِلّهُ. ممتدّاً على 308 صفحات، تتوالى قصص وحكايا زوبك زاده الفلهوي أو الكلب الملتحي في ظلّ عربة. النّصّ بذاته كوميدي ليست المواقف فقط، وعلى الرّغم من أنّ الكتاب حُوِّلَ إلى فيلم سينمائي عام 1980، ونَجح نجاحاً باهراً إلا أن لا شيء بإمكانه التعبير عن عبقرية الكتاب والكاتب في تعابيره المختلفه وصوره التشبيهية كما حين يعبر عن مدى سوءِ المحافظ : "قبل أن يصل إلى محافظتنا توقف في محافظة أخرى، . أضاف مواطنو تلك المحافظة إلى أوقات الصّلاة خمسة أُخرى، وصاروا يدعون في كل صلاة (يا رب! خذ روح هذا الرّجل، أو خذ أرواحنا نحن لنرتاح منه!)".
إضافةً إلى القصّة والشّعر، كتب عزيز نيسين المسرحيات ونال عام 1968 الجائزة الأولى في المسابقة الّتي أُجريت في تركيّا تخليداً لذكرى الشاعر الشعبي (قراجه أوغلان) عن مسرحياته ثلاث مسرحيات أرجوازية.
توفي عزيز نيسين في تمّوز عام 1995، مخلّفاً وراءه الكمّ الكثير من النّتاج الأدبي الّذي يصلح لكلّ زمان وينعكس في كثير من الأمكنة والدّول. سواء قرأنا زوبك في ثلاثمئة صفحة، أو مؤتمر الجراحين في خمس صفحات، حين يستأصل الجرّاح لوزات الصّحفي من فتحة الشّرج بما أنّ القانون آنذاك كان يمنع الصّحافي من فتح فمه. تبقى المرارة نفسها والضحكة نفسها، وكأنّ المرء يتنفّس ملء رئتيه هواءً نقيّاً فيؤلمه فعلاً. تلك هي عبقريّة عزيز نيسين الكاتب والمبدع.
المراجع :
عزيز نيسين _ أسفل السّافلين_ ترجمة عبد اللطيف عبد الحميد_ دار الحصاد للنشر و التوزيع 1993
عزيز نيسين _ آه منا نحن الحمير_ ترجمة جمال دورمش_دار الطّليعة الجديدة_ الطّبعة الثّانية 1996