الفنون البصرية > سلسلة ألعاب الطاولة
لعبة الداما
الداما قبل أربعة آلاف عام:
قبل أربعين قرناً اُختُرِعَت في إفريقيا لعبة بدائية باستخدام لوحٍ تنقل قطع اللعب عليه. واستخدم الناس أحجاراً صغيرة أو أصدافاً كقطع للّعب فحركوها ونقلوها على خطوطٍ مرسومةٍ في الرمال. وتماماً كما نفعل اليوم، كانوا يأخذون القطعة عبر القفز فوقها أو تحريك قطعة أخرى فوقها. ولكن تلك لم تكن لعبة الضامة أو الداما بعد، إذ كان اللاعبون يحركون القطع في أي اتجاه ولم يكن للعبة قوانين. إلى أن ولدت الداما بين عامي 2000 و 1500 قبل الميلاد، عندما حدد شخص ما في افريقيا قوانين اللعبة. منذ تلك اللحظة بات تحريك القطعة إلى الوراء وأخذ قطعة أخرى بها إلى الوراء مسموحاً فقط للقطع التي وصلت إلى الصف الأول من ناحية الخصم. وقد لعب الناس هذه اللعبة الجديدة على لوحٍ مشبّك يحتوي خمساً وعشرين نقطة، ويبدأ كل لاعب اللعب بإثنتي عشرة قطعة فقط. وقد نُقش رسم هذا اللوح على ألواح السقف في معبد الأقصر المبني على الضّفة الغربية لنهر النيل حوالي العام 1500 قبل الميلاد.
الداما من الشرق الأوسط إلى أثينا وروما:
قبل مايقارب 3500 عام لعب فراعنة مصر هذه اللعبة و كان لحجر الملك مقدار قليل من القوة، إذ كان بإمكانه التحرك خطوة واحدة فقط في أي إتجاه. وقد كان "ملكاً قصيراً" كما هو حال الملك في الداما الأمريكية الحالية أو الداما البريطانية. ولم يكن أخذ أحجار الخصم أمراً ضرورياً فقد فضّل بعض اللاعبين اللعب بدون أخذ أحجار.
لاحقاً سافر التجار في أنحاء العالم حاملين معهم ألواح اللعب الخاصة بهم، وبهذه الطريقة انتقلت اللعبة إلى اليونان حين استخدم اليونانيون ألواح التجار. فوفقاً الفيلسوف أفلاطون فإن اليونانيين حصلوا على ألعابهم اللّوحية من مصر. وقد كانت الداما من ضمن تلك الألعاب. لا يعرف بالتحديد التاريخ الذي وصلت فيه الداما إلى أثينا، إلا أنه من المؤكد أن اليونانيين لعبوها في القرن الخامس قبل الميلاد باسم "لعبة الخطوط الخمس".
وقد كانت لعبة شائعة وشعبية جداً لدرجة أنها أثرت على الأمثال الشعبية السائدة، فإن كان على شخص ما أن يتخلى عن مركزٍ أو موقعٍ مهم كان يُقال: "عليه أن يتخلى عن الخط المقدس". والخط المقدس هو الخط الأفقي الذي يقع في وسط لوح اللعبة، وسُمي كذلك لأنه لا يمكن أخذ حجر يقف على هذا الخط إلا بواسطة حجر الملك نفسه أو بواسطة حجرين يُنقلان فوقه معاً في وقت واحد.
ونظراً لارتباط اليونان القديمة بروما القديمة فقد لعب الرومانيون الداما أيضاً. فكان اسمها في روما "اثنتي عشرة قطعة"، وأول من لعبها كان "بابليوس موشيوس سكايفولا" الذي عاش في القرن الثاني قبل الميلاد، وقيل عنه أنه كان باستطاعته اللعب معصوب العيني. وبسبب تأثير روما الكبير على اوروبا فقد انتقلت اللعبة إليها، وتغير اسمها لاحقاً في القرن السادس الميلادي إلى "لعبة القطع"، رغم وجود لعبة أخرى تحمل نفس الاسم وهي "موريس" مما يرجح أن اللعبتين كانتا تُلعبان معاً.
ملك جديد:
بعد ذلك انتقل اسم اللعبة اللاتيني "لعبة القطع" إلى القبائل العربية، وقبل القرن الثامن الميلادي أضاف أحد اللاعبين العرب قاعدة جديدة إلى اللعبة وهي: لدى الملك حرية أكبر في الحركة، وهكذا ولد "الملك الطويل". لاحقاً خلال القرن الثامن الميلادي احتل المغاربة العرب اسبانيا، واحتلت نسختهم من اللعبة البلاد أيضاً نظراً لحيويتها وسرعتها بخلاف اللعبة الرومانية بملكها القصير. وفي القرن الثالث عشر انتشرت الداما العربية في اوروبا.
انتقال الداما إلى لوح الشطرنج:
كانت الداما شعبية للغاية في فرنسا بين عامي 1000 و 1500. وقد أثمرت تلك الشعبية ابتكاراً جديداً، فقد بدأ أحد اللاعبين الفرنسيين بلعب الداما على لوح الشطرنج، وقد لاقى هذا التغيير قبولاً كبيراً من اللاعبين حتى إن اللعبة على لوح الشطرنج أُعطيت اسماً خاصاً بها: "جو دي دام" والذي يعني "لعبة الحواجز". وانتقلت اللعبة إلى بلاد أخرى في اوروبا مع ذلك الاسم الجديد، إلا أن اللاعبين الإنكليز فضلوا اسم "تشيكيرز" الذي يعني حرفياً "اللعبة على اللوح ذي المربعات".
حركة النفخ في القرن الخامس عشر:
في القرن الخامس عشر ظهر ابتكار جديد، في فرنسا على الأرجح، وقد غيّر طبيعة الداما. فقد صار الالتقاط أو الأخذ إجبارياً تحت طائلة العقوبة، فعندما يغفل اللاعب عن حجرٍ يمكن التقاطه فإن خصمه يأخذ حجر اللاعب الذي يفترض أن يقوم بالالتقاط، ويقربه من فمه وينفخ الهواء. واكتسبت اللعبة مع حركة النفخ اسماً جديداً في الفرنسية "فورسيه"، وفي الإنكليزية "دروتس". وتبنى لاعبوا الداما الإسبانيون هذه الحركة وأضافوا إليها الالتقاط المزدوج والذي يتفوق على الالتقاط العادي المفرد. والداما الإسبانية والتي هي نفسها العربية قد أثّرت على لاعبي الشطرنج بملكها الطويل، مما جعلهم يستبدلون ملكتهم القصيرة من العصور الوسطى بملكة طويلة، وهي الملكة الموجودة في لعبة الشطرنج اليوم. ويذكّر اسمها بأصلها "داما"، المأخوذ من الكلمة الإسبانية "داماس" والتي تعني "الداما". ويبيّن تأثير الداما على الشطرنج مدى انتشارها وشعبيتها.
الالتقاط إلى الوراء واللوح ذو المئة مربع:
و ظهر ابتكاران آخران في الشمال في هولندا، الأول كان الالتقاط أو الأخذ إلى الوراء للحجر الذي لم يتحرك بعد. والثاني كان اللعب على لوحٍ يحوي مئة مربع. وقد سمى الهولنديون اللعبة باسم مختلف: "الداما البولندية"، وتعني كلمة "بولندي" في اللغة الهولندية "غريب"، فكان معنى الاسم بالهولندية "الداما الغريبة". إلا أن كاتباً فرنسياً استغل دلالة الاسم بعد قرنٍ كامل ليلفّق قصة تقول أن الداما البولندية أوجدها رجل شرطة فرنسي، وأنه سماها برحابة صدرٍ باسم الداما البولندية لأن رجلاً بولندياً قد ساهم في اختراعها.
إلغاء حركة النفخ:
بقيت حركة النفخ قاعدة حية في المسابقات والألعاب السريعة في المقاهي والمنازل. وكان أحد اللاعبين يحاول استكشاف حدود مجموعة الحركات المحتملة مع وضع الالتقاط الإلزامي وحركة النفخ في الاعتبار. لم يواجه اللاعبون أي مشاكل في الداما الأصلية سابقاً، لكن قاعدة حركة النفخ قد تغيّر هذا الأمر. ولهذا كان هناك اختلاف كبير بين مجموعة الحركات في اللعبة الواقعية وبين مجموعة الحركات في في الدراسة النظرية. على سبيل المثال يمكن طرح مجموعة حركات وضعها "ويليام ستريكلاند" والتي يفوز في اللون الأبيض كما يلي:
1. 12-8 3×12
2. 14-9 5×14
3. 13-9 6×13
4. 15×6 2×9
5. 17×3 26×17
6. 21×5
تمنع قاعدة حركة النفخ مثل هذه المجموعة من الوجود على أرض الواقع في لعبة حقيقية، يأخذ اللون الأسود 3×12 و 5×14 لكنه يرفض التقاط 6×13. يتم التقاط حجره على المربع 6 ونفخه، لكنه يفوز بحجر.
في القرن التاسع عشر زار اللاعبون الهولنديون فرنسا ليلعبوا الداما ضد اللاعبين الفرنسيين. كان الشرف الوطني على المحك، وبذل الفريقان أقصى جهديهما للفوز، فلعبوا مباريات قوية وكانوا حريصين على إظهار قدراتهم. ففكروا بعمق، واكتشفوا عدة مجموعات من الحركات للإطاحة باللاعب الخصم، إلا أن قاعدة النفخ منعتهم من تأدية هذه الحركات. ولذلك وبعد وقتٍ قصير أُلغيت حركة النفخ في الداما البولندية الرسمية، تبعتها بعد ذلك الداما البريطانية بعد ما يقارب القرن من الزمان. وباتت لعبة "تشيكرز" أو "الداما" الآن لعبةً تجمع التخطيط الاستراتيجي والحركات الذكية. وتعتبر الداما البولندية الأكثر تنوعاً وتطوراً باحتوائها على اللوح ذي المئة مربع، والملك الطويل، والالتقاط المزدوج، والالتقاط إلى الوراء.
تضاؤل شعبية اللعبة في نهاية القرن التاسع عشر:
في اليونان القديمة كتب الشعراء أبياتاً كثيرة عن الداما، وفي روما القديمة كانت لعبة المواطنين من الطبقة الراقية، وما يستخدمه النبلاء لتمضية الوقت. لكن في حوالي العام 1900 بدأ الشطرنج يتفوق على الداما كثيراً حتى أن شعبيتها تراجعت بدرجة كبيرة. ففي ألمانيا وبلجيكا مثلاً تم تصنيفها كلعبة تسلية للأطفال بعد أن كانت للنبلاء من الرجال. وفي اسبانيا وانكلترا اختفت الداما من الوجود تقريباً، وفي فرنسا وهولندا فقد فقدت الكثير من شعبيتها رغم أنها لا تزال حيّة كلعبة بسيطة لا تناسب طلاب الجامعة، كما تناسبهم لعبة الشطرنج التي تتمتع بعمق أكبر.
وتخبرنا الكتب أن الداما هي لعبة حديثة يافعة، تدين بتطورها للشطرنج، وأنها لطالما كانت تُلعب في ظل الشطرنج. لكن التحقيقات الحديثة تخبرنا بوجهة نظر مختلفة تماماً، وجهة قد يكون من الصعب أو حتى المستحيل أن يقبلها الناس كحقيقة تاريخية.
المصادر: