الاقتصاد والعلوم الإدارية > اقتصاد
المصارف السويسرية.. ظاهرة عالمية (الجزء الأول)
تعتبر سويسرا أهم مركز مالي في العالم، حيث أنها تحتفظ بثلث حجم الثروة العالمية الخاصة. كما أن معظم الشركات العالمية والمتعددة الجنسيات تقوم بالاستعانة بالمصارف السويسرية للقيام بخدماتها المالية. وعلى الرغم من أن الموقع الجغرافي لسويسرا ساعدها لتأخذ مركزاً مالياً مهماً، إلا أن سمعة مصارفها ومواردها البشرية وكفاءاتهم لعبت دوراً مهماً في نجاحها المالي.
تقع سويسرا في مركز أوروبا الغربية، وتجاورها خمس دول هي فرنسا، ألمانيا، النمسا، ليختنشتاين، وإيطاليا. وهي دولة قليلة المصادر الطبيعية، عدد سكانها يصل إلى نحو 8.2 مليون نسمة تقريباً بنهاية العام 2014. كانت سويسرا خلال النصف الثاني من القرن العشرين ملجأً لمختلف رؤوس الأموال التي هربت من دولها نتيجة الحروب وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، من بين أصحابها نجد الأوربيين الشرقيين والشرق أوسطيين الذين هربوا من الامتداد الشيوعي والاشتراكي.
تعتبر مدينتا زيوريخ وجنيف من أهم المدن في سويسرا، و تعد مدينة زيوريخ أهم المراكز المالية في سويسرا وأوروبا من حيث صناعة الخدمات المالية، كما أنها تعتبر مركز الأموال الخارجية، حيث تدير الحجم الأكبر لأموال غير المقيمين في العالم، بالإضافة إلى أنها تشكل أكبر مركز عالمي لتجارة الذهب وثالث أكبر مركز للتأمين بعد لندن وميونخ. كما أن السوق المالي السويسري والذي يقع في زيوريخ أيضاً يعد من أهم الأسواق الأوروبية، ويصنف من بين أكبر عشر أسواق من حيث القيمة السوقية حول العالم. أما بالنسبة لجنيف فتأتي أهميتها المالية من دورها كممول للتجارة وكمركز للشركات المصرفية الخاصة، وتقع في المرتبة الثانية عالمياً بعد لندن من حيث التجارة الدولية للسلع والخدمات والمنتجات نصف المصنعة، كما تحتل هذه المدينة مركزاً بارزاً في مجال تمويل وتجارة النفط حول العالم.
بين عامي 1910 و 1913 وأثناء الحرب العالمية الأولى، انهارت الكثير من المصارف حول العالم. وبين عامي 1926 و 1930 عاشت المصارف السويسرية فترة ازدهار لكنها بقيت متواضعة من حيث الحجم مقارنة بنظرائها الدوليين. وكانت سويسرا كمركز مالي أقل أهمية من نيويورك ولندن وباريس وأمستردام وفرانكفورت وفيينا. ففي عام 1930 على سبيل المثال، كان مصرف باركليز، و هو واحد من المصارف الخمسة الأكبر في بريطانيا، يمتلك بمفرده إجمالي أصول أكبر من نصف أصول ميزانيات المصارف السويسرية مجتمعة. وكذلك كان وضع المصارف الألمانية والفرنسية. ثم بدأ الكساد الكبير في أمريكا في عام 1929 ، ومن بعده أزمة المصارف في ألمانيا عام 1931. وكانت الناس حينها مازالت متأثرة بالتضخم الجامح الذي اجتاح ألمانيا في عشرينات القرن الماضي. وخلال النصف الأول من عقد 1930 اهتزت المصارف السويسرية الكبرى بشدة نتيجة الأزمة المصرفية الألمانية، وانكمش إجمالي أصول المصارف الكبرى إلى النصف. لقد أثرت الأزمة المصرفية والحرب العالمية الثانية من بعدها سلباً على عمل المصارف السويسرية وأعاقت تقدمها، واستغرق الأمر سنوات عديدة لتعود إلى ما كانت عليه قبل الحرب. ولكن مع ذلك بقيت هذه المصارف محافظة على استقرارها نسبياً. لم تشهد بعدها المصارف السويسرية تطوراً ملحوظاً حتى نهاية ستينيات القرن الماضي مع تسارع النشاط الاقتصادي العالمي حيث تميزت آنذاك بالإقراض المصرفي القوي وبإدارة ناجحة للأصول المالية. فيما بعد استطاعت هذه المصارف أن تحتل المكانة الأولى في العالم من حيث حجم الأصول المالية التي تحتفظ بها، ساعد على ذلك أيضاً انتشار ظاهرتي العولمة الاقتصادية والمالية حول العالم، والتي ترافقت مع التطور التكنولوجي الكبير في وسائل الاتصال والمعلوماتية والذي مكن المصارف السويسرية من ابتداع الكثير من الخدمات المصرفية المميزة التي تناسب احتياجات جميع العملاء حول العالم.
يقوم جوهر نجاح المصارف السويسرية بشكل أساسي على الضمان الأخلاقي والسرية المصرفية، وهي الطريقة التي تعتمدها المصارف لتسويق نفسها في الخارج، بالإضافة للظروف التشغيلية المحيطة من استقرار اقتصادي وسياسي، وسياسة نقدية مستقرة، ووجود أعلى مستوى ممكن من الأمن والأمان على المدى الطويل. وهذا ما جعل العمل المصرفي السويسري ينجح على مدى خمسين عاماً، ويحتل موضع الطليعة من بين المصارف العالمية حتى يومنا هذا.