البيولوجيا والتطوّر > التقانات الحيوية
لقاح السرطان: الأماني التي تحققت.
الجزء الأول: السرطان يتحدى الجهاز المناعي.
أذكُر تلك الطرفة حين بدأ أحد الأطفال بالحديثِ شارحاً لي عن كيفية الإصابة بمرض السرطان قائلاً أنَّه يُخلـَـقُ من جسم المريضِ "سلطعوناً" ويضعه في بطنه ليقرّصه بكماشتيه حتى يقتله. لعلّ هذا الطفل لم يكن مخطئاً تماماً حين قال أنَّ هذا "السلطعون" مخلوقٌ من جسم المريض وبأنَّه قد يقتله في النهاية، إلا أنه لا شك قد بالغ في تشبيهه بوجود السلطعون. فقد بات الأمرُ معروفاً للجميع بأنَّ الخلايا السرطانية هي خلايا "مُواطِنة" أَصِيلة (أي أنَّها من نفس جسم المُصاب) وليست "أجنبية" دَخيلة قادمة من خارج الجسم، كالجراثيم المُعدِية أو الفيروسات (الميكروبات).
فالخلايا السرطانية هي خلايا كانت طبيعية وكانت تقوم بعملها في الجسم بشكلٍ طبيعي، إلا أنها تحولت إلى شكلٍ عدائي لتتكاثر باستمرار دون أية ضوابط، مشكّـلةً كُـتلاً تُعرف بالأورام. فتختلف أنواع الأورام باختلاف أنواع الخلايا السرطانية المشكّلة لها، وهنا يتوجب التنويه إلى أنَّ السرطان ليس مرضاً واحداً، بل له أنواع وأشكال كثيرة تتعلق بأسباب تحول الخلايا الطبيعية إلى خلايا سرطانية. أما عن سبب تحول هذه الخلايا للشكل العدائي، فهذا بحث آخر لابد للتطرق له في مقالات أخرى.
كثير منا يعلم بأنَّ الجهاز المناعي هو أشبه ما يكون بجيش من الخلايا المتخصصة بمهام الدفاع عن الجسم من الميكروبات وغيرها من الدخلاء. فهو قادرٌ على التمييز ما بين الخلايا الأصيلة والخلايا الدخيلة، فيهاجم الميكروبات الدخيلة ليقتلها وليبطل مفعولها الممرض، ولكنه لا يؤذي أي خلية من خلايا الجسم. فكيف يستطيع الجهاز المناعي أن يميز الدخلاء على المستوى الخلوي ويقوم بالقبض والقضاء عليهم؟
يستطيع جهاز "الاستخبارات" المناعي الكشف عن الأجسام الغريبة عن طريق التعرف على البروتينات المحمولة على أسطحها، والتي تُسمى "مُستضدات Antigens"، ومفردها "مستضد" (وتُعرَّب لدى بعض المدارس بـ "مولّد الضد"). وتختلف المستضدات من ميكروب لأخر، بمعنى أنَّ كل ميكروب يحمل مستضداته الخاصة به، فهي أشبه ما تكون ببطاقة هوية شخصية لكل ميكروب. والمستضدات ليست حكراً على الميكروبات فحسب، فخلايا الجسم بكافة أنواعها تحمل أيضاً مستضدات خاصة بها. وباستخدام المستضدات، يستطيع الجهاز المناعي تمييز الميكروبات الدخيلة عن الخلايا الأصيلة.
ومن مميزات الجهاز المناعي أنَّه يمتلك ذاكرة خلوية ذات قدرة على حفظ "بيانات" مستضدات الميكروبات الدخيلة التي ألقى القبض عليها سابقاً. فإذا ما دخلت نفس الميكروبات الجسم مرة أخرى، تعرّضَ لها بسرعة دون أن يَشعر المريض بأيّ توعّك. ومن هذا المبدأ انطلقت فكرة اللقاحات Vaccines (أو التطعيم لدى بعض المدارس).
فما هي اللقاحات؟
بكلماتٍ مختصرة، اللقاحات هي عبارة عن جرعات محددة يتم حقنها بجسم الإنسان، والتي تتركب من سائلٍ يحملُ أعداداً معينة من الميكروب المُمْرِضْ والذي تم قتله أو إضعافه مخبرياً (معملياً). فحينما يُحقَـن المريض بالميكروب المقتول أو المضعّف، لن يُصاب المريض بأيّ أذى، وذلك لأن الميكروب مقتولٌ أو ضعيفٌ لدرجة أنه غير قادرٍ على تسبيب المرض. فيقوم الجهاز المناعي بالتعرف على مستضداته وبتخزين بياناتها بذاكرته الخلوية، وبنفس الوقت يقوم بتنظيف الجسم من هذه الجرعة. وهكذا، يصبح الجسم مُمَنَّعاً ضد هذا الميكروب. كمثال لقاح شلل الأطفال، فكلنا تلقينا هذا اللقاح في صغرنا، ولهذا السبب، لم يصب أحدنا بهذا المرض بعد اللقاح.
حسنا ً، كل الذي قمتَ بقراءتِه تواً لن يعني شيئاً في حالة الخلايا السرطانية. فكما أشرتُ آنفا ً، الخلايا السرطانية هي خلايا أصيلة تحمل مستضدات الجسم نفسه مما يسمح لها بمراوغة استخبارات الجهاز المناعي، فتوهمه بأنها جزءٌ من الجسم وبأنها سليمة وغير مضرة. بالتالي، يُـسمح لها بالمرور. فكيف يمكن للجهاز المناعي في جسم الإنسان أن يميز الخلايا السرطانية عن تلك السليمة ليوقف عملها التخريبي؟ وما علاقة اللقاحات بالسرطان أساساً؟
هذا هو التحدي الأكبر الذي واجهه العلماء. في الجزء الثاني من هذا المقال، سنفهم كيف استطاع العلماء التغلب على هذا التحدي، وسنتطرق لبعض أمثلة اللقاحات التي أثبتت جدارتها ونجحت على المستوى الطبي ..
-سيتم ذكر المصادر في نهاية الجزء الثاني.