البيولوجيا والتطوّر > التقانات الحيوية
القمح المُعدَّل وراثياً...محاولات فاشلة... لكنَّ العلم يستفيد بكل الأحوال!
تتميز بعض النباتات كالنعناع بقدرتها على إنتاج موادٍ قادرةٍ على طرد الحشرات. ومع تقدُّم العلوم الوراثيّة بدأ العلماء بالتفكير في نقل الجينات المولِّدة لهذه الصفة من النعناع إلى محاصيل استراتيجة كالقمح بهدف إنتاج أقماح مُعدَّلة وراثيّاً قادرةٍ على مقاومة الحشرات والتخفيض من استخدام المبيدات الحشرية. ولكن مثل هذه الأبحاث لم تلقَ قبولاً من قِبَل بعض الفعاليات التي تعارض مثل هذه الأبحاث، بالإضافة إلى عدم تحقيقها النتائج المرجوّة منها.. فهل من المنطقيّ رفض هذه الأبحاث بالمجمل؟ أم أنَّ الفشل ما هو إلّا خطوةٌ نحو النجاح؟
منذ خمس سنوات مضت، بدأ مركز روثامستيد للأبحاث في انكلترا بتنمية محاصيل الأقماح التي يمكن أن تنمو باستخدام أقل لمبيدات الأعشاب. وقد انتهى بهم المطاف إلى تعديل القمح وراثياً لتنتج مواد تبعد عنها الإصابة بحشرات المن. حيث تمّ إنتاج هذه الصفة عن طريق نقل الجينات المُساعِدة من نبات النعناع. وكانت النتائج ممتازةً ضمن ظروف المختبر. ولكن مثل هذه النتائج لا تصبح موثوقةً من قبل العالم إلّا بعد تجربتها في الظروف الحقليّة وفي الطبيعة بكُلِّ مؤثراتها. للأسف، وفقاً للبحث المنشور حديثاً فشلت هذه الأقماح المحوّرة وراثياً في مقاومة حشرات المن عند زراعتها في الحقل!
برغم فشل التجربة، لكنَّ العلماء يتعلَّمون الكثير من نتائج هذا العمل كما صرّحوا في الصحافة. فعلى الرغم من فشل القمح المحور وراثياً في مقاومة المن في الحقل، فإنَّ هذا العمل ضمن المشروع على مدى خمسة سنوات سجَّل العديد من النجاحات الكبيرة؛ فقد تمّ استخدام الهندسة الوراثية لإنتاج قمحٍ قادرٍ على إنتاج فرمون بنجاح، والذي يُعرف بـ: aphid alarm pheromone (E)-β-farnesene (Eβf.
وتكمن أهمية هذا العمل في كونه الأول من نوعه على مستوى العالم في مجال العلوم النباتية. حيث أنتجت الأقماح المحوّرة وراثياً كميات كبيرة من الفرمون بدون وجود تغيرات كبيرة غير متوقعة بمظهر النبات العام والإنتاجية في النباتات الجديدة التي بدت كالنباتات الأصلية بالنسبة للإنتاجية والمظهر.
يعتقد الباحثون في المركز أنَّ حشرات المن تعودت ببساطةٍ على إنتاج القمح للفرمون. وهذا قد يشبه في حالٍ من الأحوال تجاهُل الشخص لجهاز إنذار سيارةٍ ما لا تتوقف عن الرنين كل الوقت، فيصبح الرنين بعد فترة غير مؤثر! وهذا يفتح الباب على مصراعيه أمام الباحثين للعمل على انتاج الفرمون ضمن الأقماح بشكل يشابه إنتاجه في الطبيعة حتى يمكنه الحفاظ على أداء وظيفته.
وفي هذا السياق يقول كل من جون باكيت ومايكل ايليوت التابعَين للمركز البحثي: لقد قدم لنا هذا المشروع نتائج رائعة بشكل عام ونحن الآن بصدد مكافحة مجتمعات المن ضمن الظروف الحقلية. حيث قد نحتاج للعمل على تغيير وقت إفراز الفرمون لتقليد ما يحدث في الطبيعة بأن يُفرَز الهرمون كردَّة فعلٍ على الإصابة بالمن وليس بشكلٍ مستمر.
تفتقد هذه الأقماح المهندسة وراثياً إلى العديد من الصفات التي تُزعج الناس وتُقلقهم بشأن المحاصيل المحورة وراثياً. فهذه التجربة تطمح إلى تقليل كميات الرش بالمبيدات الحشرية على المحاصيل بدلاً من إنتاج نباتاتٍ قادرةٍ على تحمُّل كميّاتٍ كبيرةٍ من المبيدات. وبدلاً من تصنيع مثل هذه المحاصيل في هيئات خاصة فقد تمّ هذا البحث في مركز حكومي تحت إشراف علمائه المُختصّين.
لايزال هذا المشروع مثيراً للجدل خصوصاً ضمن الهيئات المُعارضة للمحاصيل المحورة وراثياً، والتي تعترض على صرف المال العام في مجال أبحاث الهندسة الوراثية. حيث كلَّف هذا المشروع مركز روثامستيد ميزانيةً كبيرةً لحماية تجاربها الحقلية من هذه الفعاليات المعارضة للبحث أكثر من ميزانية البحث العلمي بحد ذاتها.
فقد كانت التكلِّفة الُكليّة للعمل البحثي 73 مليون و 200 ألف باوند، بالإضافة إلى 444 ألف باوند تمّ استثمارها لحماية هذا البحث والتجارب البحثية في المستقبل من خلال بناء سياجٍ يحمي موقع التجارب من الحيوانات ومن الأشخاص المتسللين. بالإضافة إلى ذلك كان هناك حوالي مليون وسبعمائة ألف باوندٍ إضافيّة من قبل BBSRC كإجراءاتٍ أمنيّة من أجل درء أيّ عملٍ تخريبيٍ تقوم به الفعاليات المعارضة لإنتاج المحاصل المعدلة وراثياً.
تقول بعض الفعاليات أنَّ المال يضيع بالصرف على هذه المشاريع، ولكنَّ هذا الفشل يُعدُّ جزءاً أساسياً لتقدُّم العلوم. فإنَّ الواقع غالباً ما يُكذِّب التوقعات ويخالف افتراضات العلماء، وهذا ما يجعل العلم ممتعاً ويحثُّه على التقدم. لذلك فإنَّ النتائج السلبيّة ليست هدراً للموارد، بل إنَّها جزءٌ مهٌم من العلوم ولو لم تحصل على نتائج سلبيّة، لن يكون هناك تقدُّمٌ من حولك وكل العلوم سوف تكون زائفةً إلى حين التأكُّد من صحَّتها.
المصدر: هنا
البحث الأصلي: هنا