البيولوجيا والتطوّر > علم المورثات والوراثة
مدخل إلى علم الوراثة.
- الأحماض النووية، المورثة والصبغيّات!
هل سبق صديقي القارئ وأن سمعت عن المعادلة الأساسية للحياة (central dogma)؟ وإذا ما علمت أنَّ كل خلية من جسمنا تحتوي على كامل المادة الوراثية ونفس المعلومات التي تقوم بتشفير جميع الأوامر اللازمة لبناء جسمنا واستمراره في العمل، فكيف يتم تمايز هذه الخلايا وتحولها إلى نُسُجٍ مختلفة؟ سنحاول في هذا المقال الإضاءة على عالمٍ خلَّاق من التنظيم الوراثي، حيث يبذلُ العلماء جهوداً جبارة لكشف خبايا وأسرار هذه المعلومات الوراثية التي تكمن خلفها أسرار كبيرة مازلنا نجهلها حتى الآن.. في هذا المقال سنقدِّم لكم مقدِّمة علمية مبسطة نشرح فيها أبسط أُسس علم الوراثة:
على مدى عدة قرون مضت، لاحظ الإنسان أنه يتم توريث الصفات من الآباء إلى الأنسال على مر السنين ودون أن يفهم الميكانيكيات التي تسمح بانتقال هذه الصفات الفيزيائية والعمليات التطورية عبر الأجيال. ومع ذلك فإنَّ هناك كثيراً من المجتمعات الانسانية استفادت من ظواهر التوريث في تحسين أنواع الحيوانات والمحاصيل النباتية. ومع بداية القرن العشرين استطاع العلماء من فهم ظاهرة التوريث Inheritance والتي أُرجِعت لاحقاً إلى علم الوراثة Genetics حيث أدرك العلماء أنَّ مثل هذه الصفات الفيزيائية تنتقل عبر الأجيال بوساطة وحدات وظيفية تدعى الجينات وبالتالي فإنَّ الجين gene هو الوحدة الوظيفية الفيزيائية للتوريث والتي تتكون من الـ DNA الحمض النووي الريبوزي (نسبة إلى سكر الريبوز) منقوص الأوكسجين. وتحمل هذه الجينات مجموعة التعليمات اللازمة التي يستخدمها الكائن في صناعة البروتينات اللازمة لاستمرار حياته. ويتراوح طول المورثة بين مئات القواعد النيكليوتيدية (الأساس) وحتى 2 مليون قاعدة. ويحمل كل إنسان نسختين لنفس المورثة ( الجين) نسخة من الأب والثانية من الأم. وبحسب مشروع الجينوم Genome project فإنَّ جسم الإنسان يحتوي على عدد مورثات ما بين 20-25ألف مورثة.
تتوضع هذه الجينات على مجموعة من الوحدات الوظيفية التي تعتبر مخزن المعلومات الوراثية في أجسامنا وتعرف هذه الوحدات بالصبغيات (Chromosomes) المتواجدة في نواة الخلية. ويتألف كل صبغي من شريط الـ DNA الذي يلتف بشدة ولعدة مرات حوال نوع من البروتينات تعرف بالبروتينات الهيستونية التي تدعم بنية الصبغي. وتكون هذه الصبغيات غير مرئية تحت المجهر في حالة الخلية الأساسية. ولكن يمكن رؤيتها فقط في أثناء الانقسام الخلوي عندما تخضع كمية الـDNA للتضاعف تحضيراً للانقسام. و كل ما نعرفه عن الصبغيات هي نتيجة دراستنا عنها تحت المجهر خلال الانقسام الخلوي.
تتميز بنية الصبغي بوجود منطقة انخماص (تضيق constriction point تعرف بالسنترومير أو الجزء المركزي. حيث تقسم الصبغي إلى ذراعين غير متساويين يعرفان بـــ p arm للذراع القصير و q arm للذراع الطويل). هذا ويعتبر عدد الصبغيات من المعايير المميزة لنوع الكائن الحي فعلى سبيل المثال تحتوي نواة خلايانا البشرية على 23 زوج من الصبغيات. يكون صبغيي كل زوج متشابهان فيما بينهما ويحملان نسختي الجينات المتماثلة.
تسمى المجموعة الكاملة من المعلومات الوراثية التي تحتويها نواة الخلية في الكائن الحي بالجينوم : Genome وهو المجموعة الكاملة للـ DNA في الكائن الحي مُتضمِّناً جميع مورثاته. ويحتوي كل جينوم على كافة المعلومات اللازمة للبناء والمحافظة على العمليات الحيوية للكائن الحي. وتتكون نسخة الجينوم الكاملة عند البشر من أكثر من 3 مليار زوج من اسس الـDNA الموجودة في نواة كل خلية. هذا ولا يعتبر حجم الجينوم معياراً يدل على درجة رقي الكائن الحي فعلى سبيل المثال نجد أنَّ جينوم الفاصولياء مقارنةً بجينوم الإنسان يحتوي على 5 مليار من أسس الـDNA ، لكن هذا يعود إلى حجم المناطق غير المشفرة في الـجينوم.
يعتبر اكتشاف بنية الـDNA الحلزونية المضاعفة من قبل واتسون وكريك عام 1953 نقطة التحول التي دفعت العلماء إلى إعادة فحص واختبار الظواهر الوراثية والطرق الحديثة في الاختبار والتي عرفت باسم علم الحياة الجزيئية Molecular biology وقد حقق العلماء تقدماً ملحوظاً في وضع الخطوط العريضة لهذا العلم من خلال تقديم ما يعرف بالمعادلة الأساسية للحياة Central dogma والتي تنص على النقاط التالية:
أولاً- إنَّ المعلومات الوراثية الموجودة ضمن خيط الــ DNA التي توجه العمل ضمن الخلية الحية، تنتقل إلى الأنسال من خلال تضاعف كمية الــDNA الخلية قبل الانقسام. حيث يتم تباعد خيطي الــDNA وتعمل كل سلسلة كقالب لنسخ سلسلة جديدة متممة. وتعرف هذه العملية بتضاعف المادة الوراثية DNA replication.
ثانياً- تتم عملية استخدام المعلومات المورثية في توجيه سير عمل الخلية وإنتاج المواد اللازمة لاستمرار حياتها من خلال عملية ثانية تعرف بـالنسخ DNA transcription . حيث تتم بالاعتماد على تسلسل القواعد في الــ DNA لنسخ نوع آخر من الأحماض النووية هو الحمض النووي الريبوزي الرسول mRNA.
ثالثاً- تعرف العملية الثالثة بالترجمة translation وتتم هذه العملية في سيتوبلازم الخلية حيث يعمل الــ mRNA كقالب يحدد تسلسله أنواع الأحماض الأمينية. وتتم هذه العملية بمساعدة الحمض النووي الريبوزي الناقل tRNA الذي يعمل على جلب الأحماض الأمينية وربطها. والجسيمات الريبة (الريبوزومات) تساعد في تقدُّم عملية الترجمة التي تنتهي بتكوين ما يسمى السلسلة الببتيدية التي تشكل ما يعرف بالبروتينات.
وهنا شرح مبسط لبنية وتركيب هذه العناصر المساهمة في المعادلة الأساسية:
- الحمض النووي الرايبوزي منقوص الأوكسجين الـDNA. وهو عبارة عن المادة الوراثية التي يتم توريثها عند البشر وتقريباً عند كل الكائنات الحية. وتحتوي الخلايا في جسم الإنسان على نفس كمية الــDNA تقريباً، حيث يتوضع معظم الـDNA داخل نواة الخلية ويدعى بالـ DNA النووي لتمييزه عن كميات بسيطة أخرى موجودة في الميتوكوندريا (المتقدرات) وتعرف بالـ DNA الميتوكوندري mtDNA.
يتم تخزين المعلومات الوراثية داخل شريط الـDNA من خلال تتالي أربعة قواعد آزوتية (نيوكليتيدات) هي: الأدنين A و الغوانينG و السيتوزين C و التايمين T. ويحتوي الـ DNA البشري على 3 مليار أساس، وأكثر من 99% من هذه الأسس هي نفسها عند كل البشر، و ما يحدد (يعيّن) المعلومات المتاحة لبناء وإبقاء الكائن الحي هو ترتيب أو تسلسل هذه الأسس، إذ أنها تترتب بطريقة مثل توضع حروف الأبجدية بترتيب معيّن لتشكيل كلمات و جمل. حيث يكون التشفير في الـDNA ثلاثي أي أنَّ كل ثلاث أُسُس تُشفِّر لحمض أميني معين.
فمثلا TAC تشفر الحمض الأميني الميثيونين، وبالتالي فإنَّ عدد الشيفرات الجينية المحتملة 4^3 = 64 شيفرة محتمل تشفر لـ 20 حمض أميني (حيث أن هناك أحماض أمينية تشفر بأكثر من شيفرة وراثية).
تنتظم هذه القواعد الآزوتية في خيطين من الــ DNA مشكلَين ما يُعرف بالحلزون المضاعف Double helix وترتبط السلسلتين مع بعضهما بروابط هيدروجينية تنشأ بين الأسس المتقابلة وفق قاعدة تشارغاف Chargaff rules لتكوين وحدات تدعى بأزواج الأسس Base pairing حيث يرتبط كل A مع T في السلسلة المقابلة وكل C مع G. ويرتبط كل أساس مع جزيئة سكر وجزيئة فوسفات وبالتالي فإنَّ بنية الحلزون المضاعف تكون مشابهة بعض الشيء للسلّم، حيث أنَّ الأسس تشكل درجات السلّم وجزيئات السكر والفوسفات تشكل القطع الجانبية العمودية من السلم.
إنَّ الصفة المميزة للـDNA هي قدرتها على التضاعف أو صنع نسخ بذاتها، حيث يقوم خيطي الـDNA بالتباعد عن بعضهما ويعمل كل منهما كقالب لنسخ السلسلة الجديدة وفق قاعدة أزواج الأسس وهذا ما يحدث في عملية تضاعف الــ DNA المذكورة سابقاً.
والصفة المميزة الثانية أنَّ هذه الشفرة الموجودة في الــDNA تكون قادرة على صناعة الحمض النووي الآخر وهو الـ RNA الحمض النووي الريبوزي من خلال عملية النسخ. ويحتوي الـRNA على القواعد الآزوتية نفسها باستثناء وجود اليوراسيل U بدلاً من الثايمين T. حيث يقوم الـ DNA بنسخ الشيفرة إلى الــRNA والذي يقوم بدوره بترجمتها إلى بروتينات من خلال عملية الترجمة التي تحدث في الستوبلاسم.
وهناك كما ذكرنا سابقا ثلاثة أنواع من الحمض النووي الرايبوزي المشاركة في عملية الترجمة:
1- mRNA: الحمض النووي الريبوزي الرسول.
2- tRNA: الحمض النووي الريبوزي الناقل.
3- rRNA: الحمض النووي الريبوزي الريبي.
المصادر: