البيولوجيا والتطوّر > منوعات بيولوجية
لماذا لاتهاجم خلايا جهازنا المناعي خلايا جسمنا السليمة؟
في كل ثانية تخوض خلايا جهازنا المناعي آلاف الحروب ضد البكتيريا والفيروسات بدون أن نشعر نحن بتلك الحروب. فبالإضافة الى قوة الخلايا الدفاعية للجهاز المناعي التي تحارب وتحمينا من الممرضات الخارجية، فهي أيضاً قادرة بشكل متطورٍ جداً على التمييز بين المُمرض وغير المُمرض وبين الخلايا السليمة والخلايا غير السليمة، لذلك فهي تهاجم مسببات الأمراض ولا تهاجم خلايا أجسادنا السليمة.. وهي إضافة لذلك تهاجم البكتيريا المُمرضة ولاتهاجم البكتيريا النافعة في أجسامنا فهي تعرف نوع البكتيريا المهاجمة حتى!.
إنَّ كل ماسبق جعل علم المناعة من العلوم المثيرة للدراسة والتي تحتاج لدراسات معمقة جداً لفهم الآلية المعقدة والمتطورة التي يعمل بها هذا النظام ..وهنا توجهت أغلب الدراسات نحو الخلايا اللمفاوية التائية (T Cells) وخصوصاً تلك التي تهاجم الخلايا السليمة (self-reactive T cells).
- في البداية لا بد من فهم آلية تشكُّل الخلايا المناعية وآلية عملها، فكيف يقوم الجسم بإنتاج هذه الخلايا الرائعة؟
وجدت الدراسات أنَّ عملية "خلط المورثات" (gene-shuffling) تنتج عدداً كبيراً من البروتينات كأجسام مضادة ومُستقبلات بأعداد هائلة وتنوع كبير جداً يسمح لها بالتعرف على أي عامل ُممرض يمكن تصوره.
وهذه البروتينات تعمل كالقفل والمفتاح عند مقابلة المُمرضات أو غير المُمرضات ... فالجراثيم المُمرضة المعروفة تحوي بروتينات معينة على سطحها تستطيع خلايا الجهاز المناعي التعرف عليها وبالتالي الإتصال بها وتدميرها.
وتحدث العملية ذاتها عند مقابلة الخلايا التائية لخلايا أجسامنا التي تحوي بروتينات معينة على سطحها وتسمى (بروتينات الذات) فكل خلية تحتوي على نظام بروتيني محدد للهوية الخلوية للتعريف بنفسها (الجزيئات المحددة للذات) وتعرف بالمستقبلات. الخلايا التائية المناعية المقاتلة يمكنها التمييزبين جميع الخلايا الغريبة وغير الغريبة من خلال التعرف على هذه المستقبلات البروتينية على السطح.
أثبتت التجارب أنَّ خلايا أجسامنا تصنع بروتينات الهوية هذه، وتظهرها على سطحها خلال مراحل نموها حتى تتعرف عليها الخلايا المناعية مباشرة أثناء تطورها أيضاً ليحدث تناغم واضح بينهم منذ الولادة وحتى قبلها في مرحلة نمو الجنين.
إنَّ الكثير من أمراض المناعة الذاتية تحدث عندما يكون هناك خلل في خلايا الجسم فتعجز عن إظهار بروتينات الذات الخاصة، مما يمنع خلايا الجهاز المناعي من التعرف عليها وبالتالي تهاجمها وتدمرها وهنا نسمي هذا الخلل في الجسد أمراض المناعة الذاتية (فالجسد يهاجم نفسه) مثل أمراض التصلب المتعدد والداء السكري من النوع الأول والكثير غيرها.
لطالما اعتقد العلماء انَّ الجسد لديه نظام حازم فيما يخص الجهاز المناعي، ولكنَّ دراسة جديدة أظهرت أنَّ الخلايا التائية التي تسبب أمراض المناعة الذاتية تتواجد بكثرة في جسد الإنسان، ولكنها فقط "تحت السيطرة". بعكس الفرضية الشائعة، خلايا المناعة التائية المهاجمة للذات والتي تسبب أمراض المناعة الذاتية لا يتم إقصاؤها خلال تطور جهازنا المناعي، بل تتواجد في الجسم بكثرة، ولكنَّها فقط "بانتظار التفعيل" لتبدأ بالتهام الجسد!
في دراسة حديثة وجد العلماء أعداداً كبيرة جداً من الخلايا التائية التي تهاجم خلايا الجسد السليمة في مجرى الدم خلال مرحلة البلوغ، ولكن الخبر الجيد هو أنَّ هذه الخلايا لا تتفعَّل بسهولة، بل يبدو كأنَّها تمتلك "نظام كبح" لنشاطها حتى لا تلتهم جسدك حياً. وقد فتح هذا الاكتشاف باباً لإعادة التساؤل حول كيفية عمل الجهاز المناعي وكيفية توجيه نشاطه وهجومه نحو الخلايا الغريبة في حين أنَّه يترك خلايا الجسد السليمة بسلام.
بدأ التساؤل قبل عدَّة عقود حين وجد العلماء أنَّ عملية "خلط المورثات" (gene-shuffling ) تُنتج عدداً كبيراً من البروتينات التي تعمل كأجسامٍ مضادة ومستقبلاتٍ بأعدادٍ هائلة وتنوعٍ كبيرٍ جداً يسمح لها بالتعرف على أي عامل مُمرض يمكن تصوره.
ولكن ذلك أظهر سؤالاً مُهمَّاً: لماذ لا تهاجم هذه الأجسام خلايا الجسد الصحية أيضاً؟ لا بدَّ أنَّ الجهاز المناعي يعمل خلال تطوره على استبعاد الخلايا التي تهاجم الجسد نفسه ويبقى على تلك المتخصصة بالعوامل المُمرضة فقط!
في الدراسة التي نتناولها هنا، والتي أجراها فريق Davis، كانت المفاجأة كبيرة حين درس العلماء عينة دم وبحثوا عن الخلايا التائية القاتلة التي تهاجم البروتينات الطبيعية غير الدخيلة. أشارت نتائج هذه التجربة أنَّ عدد الخلايا التائية المتخصصة بالبروتينات الدخيلة يساوي تقريباً عدد تلك الخاصة بالتعرف على بروتينات الجسم الطبيعية! لاحظ الباحثون انَّ تلك الخلايا التي تتعرف على البروتينات الطبيعية لا تعمل (غير مفعلة) ولكنَّها موجودة هناك وبأعداد كبيرة. وحين تمت تنمية هذه الخلايا في أطباق بتري (مخبرياً)، نمت الخلايا التي تهاجم البروتينات الغريبة، في حين أنَّ الخلايا التي تهاجم بروتينات الجسم فقدت قوتها وزخمها. يقول Davis: " لا بد أنَّ هناك شيئاً غريباً في الخلايا التي تهاجم البروتينات الطبيعية، إنَّها تتطلب قوة كبيرة وظروفاً خاصة لتتفعل وتعمل برغم كونها موجودة طوال الوقت".
لقد غيرت هذه الاكتشافات طريقة فهمنا لآلية عمل الجهاز المناعي وطريقة تعامله مع الخلايا التائية المهاجمة للذات، فبدلاً من قتل هذه الخلايا بالجملة والتخلص منها، يلجأ الجسم للاحتفاظ بها ولكنَّ تفعيلها يحتاج الى ظروف معينة وبالتالي تبقى أنشطتها مكبوحة ولا تهاجم خلايانا الطبيعية، ولذلك لا يلتهم الجهاز المناعي خلايانا السليمة.
المصادر:
lippincott illustrated reviews immunology 2nd edition
هنا
البحث الأصلي: هنا