البيولوجيا والتطوّر > علم المورثات والوراثة
الشيفرات الوراثية... وقراءة مابين السطور
تحدثنا في مقالنا السابق "مدخل لعلم الوارثة" (يمكنك الإطلاع عليه هنا) عن تركيب المادة الوراثية الـDNA من أربع قواعد وراثية. حيث يلعب تتالي هذه القواعد دوراً كبيراً في تخزين المعلومات الوراثية داخل الكائن الحي. وقد أشرنا أيضاً إلى أنَّ التشفير ضمن قواعد المادة الوراثية هو ثلاثي بحيث تشفر كل ثلاث قواعد لحمض أميني معين. وسنتحدث اليوم عن عملية التعبير الجيني التي تعتبر من العمليات الأساسية في بناء جسم الكائن الحي وبقائه على قيد الحياة.
تبدأ هذه العملية بنسخ الحمض النووي الريبوزي الرسول mRNA حيث تعمل المادة الوراثية الـ DNA كقالب لعملية النسخ التي تنتهي عند الوصول الى نهاية الجين والذي يشفّر بإحدى كودونات التوقف الثلاثة ATT,ATC,ACT (وهي لا تشفر أي حمض أميني). ينتقل بعدها mRNA إلى سيتوبلازم الخلية حيث يتم ترجمته إلى البروتين المطلوب بمساعدة الجسيمات الريبية ومن ثم يتم تفكك الـ mRNA عند نهاية هذه العملية (كما هو موضح في الرسم أدناه).
بات معظمنا الآن يعرف أنَّ المورثات مسؤولة عن الصفات التي نحملها، لكن هل سمعتم قبلاً أنَّ سرعة التعبير عن المعلومات الوراثية قد تشكل فرقاً بين الصحة والمرض!
اكتشف العلماء في جامعة كيس ويستيرن ريسيرف Case Western Reserve أنَّ عملية الترجمة تكون أسرع عندما يحتوي الـ mRNA على معلومات وراثية هامّة ضمن الكود الجيني genetic code المشفّر للبروتين المطلوب (كمجموعة البروتينات التي تحتاجها الخلايا لإتمام عملياتها الحيوية المعقّدة). وقد تم نشر هذه الاكتشافات الجديدة في آذار/مارس الماضي في مجلّة الخلية Cell والتي أعطت العلماء فكرة واضحة عن مجموعة المعلومات الوراثية التي تُعطى للخلايا وتساهم بتوظيفها في معالجة الحالات المرضية وبالتالي الحفاظ على الوظائف الحيوية لهذه الخلايا بالمقام الأول.
يقول جيف كولر Jeff Coller الباحث البارز في البيولوجيا الحيوية والأستاذ في كلية الطب في الجامعة نفسها: "إنَّ اكتشافنا هذا يوضح أنّ الكود الجيني هو أكثر تعقيداً مما كنا نعرف". وهذه الدراسة الجديدة سوف تمكّن العلماء من التعامل مع الشيفرة الوراثية للوصول إلى نتائج أكثر قابلية للتوقع بطريقة متقنة جداً".
إنّ الشيفرة الوراثية عبارة عن نظام من التعليمات الموجودة داخل الحمض النووي DNA، حيث يقوم الكود بإخبار الخلية كيف تُنتج البروتينات التي تتحكم بوظائفها الخلوية، ثم يقوم mRNA بنقل هذه التعليمات من الــ DNA إلى الجسيمات الريبية في السيتوبلازم، وتقوم الجسيمات الريبية بترجمة المعلومات الوراثية داخل الــ mRNA لإنتاج البروتين المطلوب. تحتوي الشيفرة الوراثية على 61 كلمة تعرف بالكودونات Codons، يتألف كل كودون من ثلاثة نيكوليوتيدات، ويعطي التعليمات للجسيم الريبي لبناء البروتينات.
(وكما ذكرنا سابقاً هناك 20 حمض أميني في الخلية وبالتالي فإنَّ هناك أحماض أمينية تشفّر بأكثر من كودون واحد). وإنَّ تسلسل هذه الكلمات داخل الشيفرة الوراثية هو الذي يحدد تسلسل الأحماض الأمينية داخل البروتين الناتج وبالتالي نوع البروتين المطلوب.
لا يُحدِّد الكود الجيني نوع الحمض الأميني الواجب إضافته إلى البروتين المطلوب فحسب بل يُعطي الخلية أيضاً تعليمات عن السرعة المطلوبة لإضافة الحمض الأميني. وإنَّ أهم إنجاز في عمل فريق الجامعة أنَّ معظم الكلمات أو الكودونات الجينية في الشيفرة الوراثيّة يتم فك شيفرتها بمعدلات مختلفة. حيث يتم فك بعضها بسرعة وبعضها الآخر ببطء. وتعتبر سرعة ترجمة المعلومات الوراثية داخل الــ mRNA هي مجموع الوقت اللازم لفك تشفير جميع الكلمات التي يحتويها بداخله. وهذا يؤثر بشكل فعلي على كمية البروتين الناتجة في نهاية المطاف. ففي بعض الأحيان تكون السرعة أفضل لإنتاج أكبر كمية من البروتين. وأحيانا أخرى يكون البطء هو المطلوب للحد من كمية البروتين الناتج عندما تكون الكمية زائدة عن الحاجة.
وجد كولر وزملاؤه أن سرعة تعرّف الجسيمات الريبية على الكودونات الجينية مختلفة. حيث تتعرّف على بعض الكودونات أسرع من غيرها ولكن الاختلاف يكون بسيطاً. مع ذلك فعلى طول شريط الـ mRNA يكون لهذه الفروق البسيطة تأثيرات تراكمية في سرعة إنتاج البروتين المطلوب.
من الضرورة بمكان أن نعرف أنَّ هناك العديد من الكودونات التي تشفّر لنفس الحمض الأميني مع اختلاف في السرعة. وبسبب ذلك يمكننا استبدال التسلسل داخل الــ mRNA دون تغيير البروتين الناتج. وبالتالي يمكننا تغيير كمية البروتين الناتج إما إلى أعلى مستوياته داخل الخلية أو أدناها أو في أي مستوى مطلوب بين المستويين. ويقول كولر: "نحن الآن نمتلك المعلومات اللازمة لرفع أو تخفيض نسب البروتين بالطريقة التي نريدها".
قام الباحثون خلال الدراسة بقياس معدل تحلل mRNA داخل الخلية. حيث كانوا يفتّشون عن سبب اختلاف درجة بقاء RNA في الخلية باختلاف الشيفرة الوراثية الحامل لها. وباستخدام الطرق الإحصائية قام الباحثون بالمقارنة بين نصف عمر الــ mRNA مع الكودونات الجينية التي تحملها هذه الأحماض بداخلها. ووجدوا أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين ثباتية الـــ mRNA ونوع الشيفرة الوراثية التي يحملها (وقد يعود هذا إلى أن هناك أنواع من البروتينات والأنزيمات التي تحتاجها الخلية بشكل دائم لإنجاز وظائفها الحيوية). ومن ثم قام الباحثون بربط هذه المشاهدات رجعياً بعملية ترجمة الــ mRNA.
يقول كولر:" إنَّ عملية ترجمة الــ mRNA وعملية تحلله في الخلية مرتبطتان بشكل وثيق. ومن الممكن أن يقدم ذلك فوائد كبيرة للعلماء. فإذا أردنا أن يكون التعبير الجيني لأحد الجينات جيداً جداً فكل ما علينا فعله هو تغيير التسلسل الجيني المشفّر للبروتين المطلوب ليحتوي على جميع الكودونات الوراثية المُثلى. فذلك سيساهم في زيادة ثباتية الــ mRNA من جهة، ويزيد كفاءة عملية الترجمة من جهة ثانية. والعكس صحيح فإذا أردنا تخفيض درجة التعبير الجيني للحدود الدنيا ما علينا سوى استخدام الكودونات الضعيفة التي تضمن عملية ترجمة بطيئة و mRNA سريع التفكك. ومن المؤكد أن عملية التطور تمت باستخدام هذه الكودونات القوية لرفع سوية جميع البروتينات المطلوبة لاستكمال الوظائف الحيوية. حيث تتميز الجينات ذات الوظائف المتشابهة بأنها تحتوي على كودونات متشابهة ونفس المستوى من التعبير الجيني".
سوف يحظى هذا الاكتشاف على مجموعة متنوعة من التطبيقات العملية في مجال الطب. فمن وجهة نظر الهندسة الحيوية يمكن تطبيق تقنيات البيولوجيا الجزيئية لجعل الجين يحوي كودونات مثاليّة والحصول على نموذج من التعبير الجيني الأنسب لمثل هذه التطبيقات. أما من وجهة نظر الفيزيولوجيا البشرية، فإنَّ هناك إمكانية لمعرفة مدى السرعة اللازمة لترجمة كل mRNA ومن ثم تحديد إن كانت هذه السرعة تتغيّر عند الإصابة ببعض الأمراض كالسرطان. في الوقت الحالي، من غير المعروف لدى الباحثين فيما إذا كانت هذه الشيفرة الوراثية تنتقل بسرعات مختلفة في الحالات المرضيّة. وسيهدف التوجه المستقبلي لهذه الأبحاث إلى ربط سرعة ترجمة الكودونات الوراثية بالحالات المرضية، وإمكانية توجيه العقاقير الطبية للعمل على خفض أو زيادة التعبير الجيني من خلال التأثير على معدل سرعة عملية الترجمة أيضاً.
قد تزودنا عملية نشاط الكودونات الجينية بمفاتيح حل مهمة حول مصادر الكثير من الأمراض التي لم يُربَط حدوثها بطفرات جينية محددة. حيث أنَّ تغيير الكودون سوف يؤثر على سرعة معدل الترجمة وعلى وظيفة البروتين الناتج بشكل كبير، دون حدوث أي طفرة أساسية. بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ المشكلة لا تكمن في الجين بحد ذاته. ولكن في العوامل التي تؤثر في سرعة التعبير عن الجين. ومن الممكن هنا أن يكون اختلاف سرعة ترجمة الكودونات الجينية السبب وراء الإصابة بأصناف معينة من الحالات المرضية. فعلى سبيل المثال، اقترحت الدراسة الحالية أنَّ أكثر من 450 عينة سرطانية أظهرت أن العوامل المؤثرة في حدود سرعة التعبير للكودنات قد تتغير عند الإصابة بهذه الحالات.
وأخيرا يقول كولر:" حدودنا هي السماء، وطالما وصلنا إلى هذه الاكتشافات. مع أننا لا نعرف كيف يمكن الاستفادة من هذه النتائج. ولكن خطوتنا التالية سوف تكون بتحديد ما إذا كانت سرعة التعبير عن الشيفرة الوراثية مرتبطة بآليات التعبير الجيني للحالات المرضية للإنسان".
المصدر: