الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة
الإرادة عند شوبنهاور- إرادة الحياة
لقد اتّفقَ العلماءُ جميعاً بغيرِ استثناءٍ على أنّ جوهرَ العقلُ هو الفكرُ والإدراكُ، وقد يبدو العقلُ أحياناً وكأنّما هو الّذي يقودُ الإرادةَ، فنحنُ مثلاً لانريدُ شيئاً لأنّنا وجدنا أسباباً مُقنعة له، ولكنّنا نخلقُ هذه الأسبابَ لأنّنا نريدُه. ولهذا يُسمّي "شوبنهاور" الإنسانَ "بالحيوان الميتافيزيقيّ"، فالحيوان يرغبُ بالشيءِ دونَ اللّجوءِ إلى الميتافيزيقيا، والإنسانُ مُساقٌ بإرادتِه لا بعقلِه. ومن هنا، وفي هذا المقال سنرى ما قصده "شوبنهاور" بالإرادة البشريّة وما ارتباطها بالجّسد، وما الّذي يميّزها عن العقل؟
آرتور شوبنهاور، هو فيلسوفٌ ذو جذور ألمانيّة، ويُؤمن أنّ الوجودَ قائمٌ على أساسِ الغائيّة، والإرادة، والدّافع الذّاتي، إذ يوضّح لنا فكرته عن "الإرادة البشريّة" بقوله:
" لاشيء أكثرُ إثارةً وتهييجاً للأعصابِ عندما نحاولُ إقناعَ إنسان ما عن طريقِ الأدلّة العقليّة والبراهين المنطقيّة، ونبذلُ جهوداً وألماً في محاولةِ إقناعه، ثمّ يتضّح لنا أخيراً أنّه لم يفهم ولن يفهم، وأنّنا ينبغي أنْ نخاطبَه عن طريقِ إثارة ما يريد ويرغب، أي عن طريقِ "إرادته"
فيؤكّد لنا عدم جدوى المنطق أمام المصلحة الشخصيّة والرغبات، التي باستطاعتها أن تحوّلَ عقلَ أغبى إنسان إلى ذكاءٍ مُرهفٍ، ذلك فقط عندما تكون المسألةُ المطروحة للبحثِ متماشيةً مع رغباتِه.
وعلى العمومِ فإنّ العقلَ ينمو ويتطوّر وهو خاضعٌ للرّغبة وأداة في يدِها، لكن ماذا سيحدث لو حلّت الإرادة محلّ العقل؟ وأين تتجسّد هذه الإرادة؟
إنّ شخصيّة الإنسان وأخلاقه تكمنُ في إرادتِه وليس في عقله، حتّى الجّسم نفسه هو من إنتاجِ الإرادة، فإرادة الحياة هي الّتي تدفعُ الدّمَ -الّذي يبني أوعيته التي يجري فيها- بشق أقنية في جسم الجّنين، وتزداد هذه الأقنية عمقاً وتصبح عروقاً وشرايين، كذلك إرادة المعرفة تكمُن في المخ، وإرادة إمساك الأشياء تحدث بالأيدي، وإرادةُ الأكل تتطوّر بالجّهازِ الهضميّ، كذلك العاطفة أو إرادة الشّعور ترتبط بحدوثِ تبدّلاتٍ بدنيّة معيّنة.
وعليه يمكننا القول أنّ هذا الإزدواج بين صورة الإرادة وصورة الجّسد أمرٌ طبيعيّ وبمثابة عملةٍ واحدة تمتلك وجهان مختلفان لا ينفصلان، توحّدهما رابطةُ السّببيّة، وليس بينهما علاقة العلّة بالمعلول، بل هما شيء واحد، ولكنّهما يحدثان بطرقٍ مختلفة.
فمثلاً حركة الجّسم ليست إلّا تعبير عن الإرادة، تعبير مرئيّ ملموس، وهذا مايستدعي وجود توافق مطلق بين أجزاء الجّسم والرّغبات الّتي تعبّر عنها الإرادة.
ويبقى أن نميّز بين العقل والإرادة، أيّهما أسبقٌ للوجود؟ وكيف يعمل كلّ منهما؟
إنّ العقلَ يتعبُ أمّا الإرادة فلا تتعب إطلاقاً، لأنّ التّعب كالألم له مكانٌ في المخ، والعقل يتغذّى في النّوم لكيّ يدحض هذا التّعب، أمّا الإرادة فلا تحتاج إلى تغذيةٍ لأنّها جوهر الإنسان. إذاً، ما المانع أن تكونَ الإرادة هي جوهر الحياة في جميع صورها؟ وماذا يمنع أن تكونَ الإرادةُ هي الشّيء ذاته الّذي بحثنا عنه طويلاً ويئسنا من الوصول إليه، وأن تكونَ هي الحقيقة النّهائيّة؟
يقولون، أنّ غريزةَ الحيوان – مثلاً – تقدّمُ لنا أفضلَ مثالٍ لما بقي من فلسفةِ البحثِ عن غاياتِ الطّبيعة (الفلسفة الغائيّة)، لأنّ الغريزة عملٌ شبيهٌ بذلك الّذي تقوده فكرة الغاية، وعليه فإنّ كلّ بناء في الطّبيعة يشبه ذلك الّذي تمثّله فكرة الغاية، وبالتّالي البراعة الآليّة العجيبة في الحيوان تُظهر لنا بوضوحٍ كيف أنّ الإرادة أسبق من العقل.
واخيراً، لا يسعنا القول سوى أنّ الإرادةُ هي إرادةُ الحياة، إرادةُ لبلوغِ حدّ أعلى من الحياة، إنّ البذورَ الجّافّة تبقى محتفظةً بقوّةِ الحياةِ الكامنة فيها ثلاثة آلافِ سنةٍ، وعندما تُصادِف في النّهاية الظّروف المناسبة تنمو وتترعرع إلى شجرةٍ أو نبات، إنّ الإرادةَ هي إرادة الحياة، وعدوّها الأبديّ هو الموت.
المرجع: قصة الفلسفة، ول ديورانت.