التاريخ وعلم الآثار > التاريخ
صديق الجبل وعشيق المدينة: بردى ... رمز يصارع للبقاء
تحدّثنا في مقالٍ سابق عن نهر بردى هنا وأقنية المياه المتفرعة عنه والتي تعد السر الكامن في مناخ مدينة دمشق و سعادة سكانها، نُكمل معكم في هذا المقال عن أهم التطورات التي تعرضت لها هذه الأقنية ونتائج هذه التطورات.
اعتباراً من منطقة الهامة وعلى بعد 6 كم من مدينة دمشق، يتفرّع عن نهر بردى تدريجياً مجموعة من الأقنية الرئيسية، تمر هذه الأقنية في خانق الربوة على مناسيب مختلفة، ثم تتباعد على شكل مروحة تغطي جميع أحياء مدينة دمشق، وبعد خروجها من دمشق تنتشر في جميع مناطق غوطة دمشق مشكّلة بذلك شرايين شبكة ري الغوطة التاريخية.
إلا أنه في عام 1932 م تم إنشاء مشروع جديد لتأمين مياه الشرب والاستعمالات المنزلية، وذلك عن طريق أخذ المياه من النبع مباشرة عبر نفق جبلي وشبكة توزيع نظامية.
جرى تنفيذ هذا المشروع بإمكانات متواضعة وجهود جبارة، وكان صفحة مشرقة جديدة في سجل المدينة.
وهكذا لم تعد الأقنية المارة بدمشق مصدراً لتأمين مياه الشرب للمدينة، هذا المصير كان في ذلك الوقت لصالح المدينة ولم تظهر سلبياته إلا لاحقاً
فمع مرور الوقت تزايدت كمية المخلفات السائلة التي تطرح إلى المجرى مع انخفاض غزارة المياه النظيفة الواردة من الينابيع المغذية للنهر نتيجة تزايد احتياج المياه لأغراض الشرب والري مما تسبب بارتفاع تركيز الملوثات لدرجة فاقت قدرة النهر على التنقية الذاتية، يضاف لذلك أن المقطع المنتظم والمجرى شبه المستقيم السائد في الأقنية يقلل كمية الاكسجين المنحل في المياه والضروري لعمليات التنقية الذاتية في النهر.
في الواقع، ومع وضع مشروع عين الفيجة بالاستثمار الشامل للمدينة، كان لابد من البحث عن مصارف لمخلّفات الأحياء الجديدة والتوسع، وجاء التوقف عن استعمال مياه الأقنية في تأمين مياه الشرب حافزاً ومبرراً خاطئاً لسوق هذه المخلّفات إلى الأقنية وإلى نهر بردى معاً. وبذلك بدأت مياه الأقنية تتلوث وأصبح واضحاً بأنها تحولت إلى ما يشبه مياه المجاري صيفاً وخاصةً في السنوات الشحيحة.
أما بالنسبة للرطوبة التي كانت تنتشر من المياه الجارية في أقنية دمشق، فقد أصبحت الآن وبصورة شاملة ملوثة وكريهة وخاصة في فصلي الصيف والخريف. وبذلك فإن دمشق بدأت تفقد واحدة من أهم مزاياها التي كانت تضفي عليها المناخ المحلي الرطب في صيف المنطقة المحرق.
وقد تفاوتت الآراء حول مستقبل أقنية دمشق في ضوء التطورات الحاصلة عليها، ويمكن تلخيص ذلك باتجاهين:
- الاتجاه الأول، وتنادي به زمرة محدودة من مؤيدي نسف القديم وتحديث العمران على حساب الآثار والقيم التاريخية، وحجتهم في ذلك انعدام حاجة المدينة إلى الاستقاء من مياه الأقنية، وتداعي هذه الأقنية وتناقص مياهها والحاجة إلى مزيد من الأراضي للبناء ضمن المدينة، وفساد جو المدينة صيفاً.
- الاتجاه الثاني، وتنادي به الأكثرية الساحقة وهو الإبقاء على هذه الأقنية وإعادة إحيائها، وحجتها في ذلك المحافظة على الآثار والقيم التاريخية وضمان استمرار الجو اللطيف للمدينة صيفاً، وتوفير مصدر احتياطي من المياه، كما تساهم في توفير الطابع المميز للمدينة، وضمان استمرار نقل مياه الري إلى الغوطة عبر مساراتها التقليدية الاقتصادية.
وتعقيباً على الاتجاهين المذكورين، يجب أن نُلفت الانتباه أولاً إلى أن شبكة ري غوطة دمشق بما فيها مجموعة الأقنية الرئيسية المارة بدمشق والعائدة للشبكة، هي بالنسبة لشبكات الري التاريخية في العالم أقدمها وأوسعها، كما وكانت معجزة فنية رائدة.
هذا بالإضافة إلى كونها قائمة حتى يومنا هذا وتؤدي أغراضها شأنها في ذلك شأن مدينة دمشق القديمة الخالدة، وأن المساس بهذه الشبكة وأقنيتها بهدف القضاء عليها سيكون بمثابة تنكّر للتراث العظيم الذي تركته لنا الأجيال الغابرة. هذا في الوقت الذي يحقق العالم فيه قفزات واسعة في إحياء التراث والمحافظة عليه واحترامه بما يحمل من معان وعلم وتقنية وعبر.
المصدر:
د. الصفدي، محمد شفيق، دمشق أبحاث تاريخية وأثرية، مطبوعات المديرية العامة للآثار والمتاحف، دمشق 1980