الفنون البصرية > فن المسرح
مسرح العصور الوسطى: من الانحدار إلى الكنيسة إلى الازدهار... رحلةٌ تستحقّ الاطّلاع!
يمكنكم الاستماع للمقال عوضاً عن القراءة:
شَهدَ العام 476 م سقوطَ روما وإمبراطوريتها -حسناً ربّما هذه المعلومة يعلمها معظمنا- إلّا أنّ سقوطُها كان بدايةَ القرون الوسطى التي استمرّت حتى القرن الخامس عشر. بعده أخذت العروض المسرحيّة بالتدهور شيئاً فشيئاً حتى انحدرت إلى قاع الرخص والبذاءة. وقد كان هذا هو السببَ الرئيسيَّ لتدخّل الكنيسة في إخماد شعلة المسرح كما كان وإبقائه تحت عباءة الكنيسة. طافت بعض الفِرقِ الجوّالةِ مؤديةً عروضاً مسرحيةً أينما وُجِد جمهورٌ. كانت هذه الفِرَق مؤلّفةً من الحكواتية، المهرجين، المشعوذين ومؤدّين آخرين.
نجحت الكنيسةُ في إخماد شعلة العروض المسرحيّة سيئة السمعة وإدانةِ المؤدّين، حتى أنها ذهبت إلى أبعد من ذلك إذ اعتبرت الممثلين في فئةٍ واحدة مع اللصوص والعاهرات وغيرهم من المنبوذين من المجتمع.
لاحقاً، تبنّت الكنيسةُ نفسُها إحياءَ المسرح بالرغم من إصرارها أن التمثيل والعروض المسرحية خطيئة. حيث استخدمت المسرح لتمثيل القصص الإنجيليّة كنوعٍ من الطقوس الدينية المسمّاة :صلوات الساعات، مدموجةً بالموسيقى. كانت أول دراما متعلقة بالطقوس الدينية هي مسرحية لأسقف "وينشستر" في إنكلترا، "إيتلوولد" والتي تحدث فيها عن عيد الفصح.
كانت تقام أغلب العروض المسرحية في أديرة في البداية، حيث أنّ الدراما الدينية تمّ تأديتَها حصرياً في الكنائس حتى حوالي عام 1200.
وهكذا ،وبما أن الكنيسة كانت السلطة الحاكمة حينذاك على كافة جوانب الحياة في "أوروبا" في العصور الوسطى حاربت كل ما هو إغريقي أو روماني وأصبحت منبعاً للفن والجمال. ولكن دفعها هذا على أن تأتي بتعاليم هي لا تتوافق ولا تتعارض مع تعاليم المسيح إنما بعيدة عنها ،حفاظاً منها على الأخلاق السائدة آنذاك، فقد ترتّب على الكنيسة في أيامها الأولى، مثلاً، أن تسعى لتغطية الجسد الإنساني الذي تباهت به الحضارة الإغريقية وتخفيه على أنه شيءٌ فاضح.
انقسمت المسرحيات الدينية لثلاثة أقسام: مسرحيات الغموض (عن المسيح والعهد القديم والتي كانت تؤدى في حلقات)، مسرحيات المعجزات(حياة القديسين تاريخيا وأسطورياً)، ومسرحيات الأخلاق(التي تتحدث عن الرموز التعليمية وعن صراع الإنسان الشائع للخلاص). أما عن خصائص هذه المسرحيات فقد كانت تعليمية تعزز عقيدة الكنيسة، وميلودراماتيكية –الشرير يعاقب والخيّر يكافأ- بالإضافة إلى التأكيد على كلمة الله وأن الشخصيات لا قوة لهم فوق قوته.
أحد أكثر القصص الإنجيلية تمثيلاً كانت قصة المريمات الثلاثة عند زيارتهن لقبر المسيح ليكتشفنَ إعادة إحيائه فتُغَنَّ المسرحية المشهورة ذات الأربعة أسطر "Quem Quaeritis" . إلّا أنه نادراً ما تم تأديةُ مشهدِ صَلب المسيح على خشبة المسرح. إذ اتّبعت الكنيسةُ بعض الأعراف في الإخراج المسرحي لدراما الطقوس الدينية. حيث استخدمت بعض أبنية المشاهد الصغيرة المسماة "mansions" لتوضيح بيئة المسرحية. أما الأزياء فقد كانت عبارة عن ثياب الكنيسة نفسها التي أُضيفت إليها ملحقات رمزية أو حقيقية. وتمّ غناءُ أغلب أسطر المسرحية باللاتينية بدلاً من أن تُقال.
بعدها، تطورت هذه المسرحيات الصغيرة وخرجت من الكنيسة ونُظّمت في مجموعات عُرفت لاحقاً باسم "حلقات الأسرار"، وهي مسرحيات أو حلقات عديدة قصيرة والتي قد تكون أو لا تكون دينية. كانت مسرحيات الحلقات تستغرق بضع ساعات إلى 25 ساعة إلى أكثر من يوم أحياناً لتأديتها. كما الحال مع زمن عرضها، بالرغم من أنها انشقّت عن الكنيسة لكن استمرت حلقات الأسرار ككتابات دينية، عن شخصيات دينية ومواعظ كنسيّة. اتبعت هذه المسرحيات السياق الزمني للأحداث وغالباً ما كان كُتّابُها مجهولين. كما شهدت السنوات من 1200 إلى 1350 ظهورَ مسرحياتٍ باللغة العامية أو الوطنيّة بدلاً من اللاتينية واعتُبر هذا أيضاً خروجاً عن الكنيسة و تقاليدها و أعرافها.
كما ذكرنا سابقاً، كانت تعرض المسرحيات الدينية في الكنيسة وحتى أواخر العصور الوسطى بقي الوضع على هذا المنوال. إلى أن جاء عرض المسرحيات خارج المسرح ليفتحَ آفاقاً لتغيّراتٍ أخرى في مسرح العصور الوسطى. ومع تأسيس نقابات القرون الوسطى، ونموّ البلدات وانحدار النظام الإقطاعي، حصل المسرح على فُرصته ليزدهر ويتطوّر، وخاصةً مع ازدياد اهتمام الناس بكل ما هو كلاسيكي.
قرابة القرن الرابع عشر، كانت الكنيسة تتحكم بشكلٍ أقلّ بإنتاج المسرحيات و تضاءلت سلطتُها، لكنها ظلّت دائماً تراقب محتويات العروض المسرحيّة. في بعض الأحيان كانت البلدات تعرض المسرحيات والأفراد يرتبون إنتاجها واحتفظت الكنيسة بحق الموافقة أو عدمها على مخطوطة المسرحية قبل إنتاجها.
ومع بدء التعامل مع ممثلين محترفين كثر، والتأثيرات الخاصّة و توزيع الأدوار و الإدارة الماليّة ظهر ما يُسمّى بالمخرجين للقيام بهذه المهمّات. وكانت أحيانا توضع لجنة مراقبة على خشبة المسرح تقوم بعدة واجبات مثل توجيه وتشييد خشبة المسرح، بناء مقاعد للجمهور، اختبار طاقم الممثلين وتدريبهم، العمل مع الممثلين على الأدوار المختارة، تعيين أشخاص لجمع المال عند الباب ومخاطبة الجمهور عند بداية ونهاية المسرحية. تغيّر الممثلون والعدد اللازم في كل مسرحية، على سبيل المثال، احتاجت مسرحية الحلقة ل300 ممثل. حيث أنّ أغلب الممثلين وجدوا في المنطقة المحلية بينما كان المخرجون يختارون الممثلين. كان الممثلون إما فتياناً أو رجالاً، لكن في فرنسا سُمح للنساء بالتمثيل من حين لآخر. وغالباً ما أدى الممثل أدواراً مختلفة في عرض واحد.
فإذاً، صار المسرح احترافي وتجاري غير ديني بعد أن كان مغامرة اجتماعية فقط. هذه المرحلة الانتقالية مهدت الطريق لمسرح عصر النهضة والذي سيكون موضوع مقالنا القادم.. انتظرونا..
المصادر: