الهندسة والآليات > التكنولوجيا الطبية
الرحلة الخيالية للروبوتات داخل الجسم البشري
قام العلماء في فيلم "رحلة خيالية" عام 1966 بتصغير غواصة تدعى بروتيوس"المتبدّلة" مع طاقمها البشري في مختبر في الولايات المتحدة إلى حجم مجهري ثم حقنوها في جسم عالِم مريض، وعندما أصبحت داخله شقّت طريقها عبر مجرى الدم وصولًا إلى الدماغ حيث ارتدى أفراد الطاقم معدات الغوص واستخدموا مسدّسًا ليزريًّا لإجراء عمليات جراحيّة دقيقة..
هنالك الكثير من الأفكار حول هذه الرحلات والتي قد تبدو لنا ضرباً من الخيال إلا أن مفهوم أداء العمليات الطبيّة على المستويات المجهريّة بدأ يتسلل خارجاً ببطء من عالم الخيال العلمي، وذلك بفضل التطورات في مجال التصنيع الدقيق وغيرها من المجالات حيث يعمل الباحثون على ضبط وضغط حدود الأحجام وقدرات الأشياء لتكون صغيرة بما يكفي للتحرّك داخل جسم الانسان.
في السنوات العشر الماضية، كشف معرض لتصاميم غريبة عن المألوف عن روبوتات دقيقة كثيرة نذكر منها على سبيل المثال :
- ما يُقاد بواسطة نطفة مندفعة بقوة تعتمد على قوة النطفة وحركة سوطها كقوة للدفع، وتعتمد على أنبوب ميكروي يتأثر بالحقل المعناطيسي للتوجيه حيث يدخل رأس النطفة فيه ويتم توجيهه بحقل مغناطيسي خارجي - للمزيد من التفاصيل تابع هنا:
- روبوتات شبيهة بنجم البحر ذات أذرع قابضة دقيقة،
- بعض الروبوتات التي تحصل محرّكاتها الدقيقة على طاقتها من خلال الأحماض المعدِيّة،
- كما أن هناك روبوت ميكروي بتصميم خاص يشبه الصدفة يعتمد على حركة تشبه التصفيق بكلا طرفيه ليتحرك خلال الجسم البللوري للعين - للمزيد من التفاصيل عنها تابع هنا: هنا
معظم هذه التقنيات لم تتجاوز الفضول المخبري، بينما تم اختبار أُخريات على الحيوانات. ويثق بعض المهندسين بأنه يوماً ما سيتم استخدام الأجهزة الدقيقة حرة الحركة في المجال الطبي، وسيكون أثرها كبيراً في مجال الرعاية الصحيّة.
ويقول الباحثون بأنه مع التصميم الصحيح يمكن لروبوت– أو حشد من الربوتات الدقيقة – أن يوصل جرعات عالية التركيز من الأدوية أو الحبوب المشعّة للمكان المطلوب في الجسم، وأن يمنع ويزيل تجلّطات الدم، وأن يأخذ عينة نسيجيّة أو حتى يبني منصّة يمكن أن تنمو الخلايا عليها.
يتبنى الطبّ فعليّاً التقنيات الصغيرة وحرة الحركة حيث تشقّ اليوم بعض أنواع التقنيات طريقها عبر جسم الإنسان بدون أي ارتباط مادي مع العالم الخارجي، فهنالك مثلًا الأدوات التي تعمل على بطارية وهي بحجم حبّة فيتامين كبيرة تتيح بذلك أخذ صورٍ للمريء، والأمعاء، والقولون عبر حركتها على طول الأعضاء آنفة الذكر وتستخدم للحالات التي يصعب وصول المنظار إليها وتستمد الطاقة من بطارية داخلية وترسل الإشارات لمستقبل خارجي متوضع على الجسم ليتم بث الصور بشكل مباشر على شاشة المراقبة. تعتمد هذه الأدوات في حركتها على الحركة الطبيعية للأمعاء وتحتوي على مصدر للإضاءة وعدسات لالتقاط الصور ومرسل لارسال الصور لجهاز خارجي وتتوضح الأجزاء كاملة في الشكل التالي:
فيديو يوضح آلية العمل
هناك تقنيات أخرى للمراقبة أيضاً، ففي عام 2012، أعطت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية الضوء الأخضر لتسويق تكنولوجيا قابلة للبلع وهي عبارة عن دارة سيليكونية بمساحة 1 مم2 يمكن أن تتوضع داخل الكبسولة الدوائية. والتي تم اعتبارها من قبل البعض كأصغر كومبيوتر مُبتلع في العالم، لكن ومع ذلك فإن قدراتها محدودة باعتبارها جهاز كومبيوتر، فهي لا تحمل هوائي ولا مصدر للطاقة بل تحوي قطبين كهربائيين عوضًا عن ذلك، حيث يتصل هذان القطبان كهربائيًّا عندما تنحل الكبسولة المحيطة بالرقاقة وتصبح الدارة على تماس مباشر مع العصارات المعدية، وبعد خمس إلى عشر دقائق يصبح للرقاقة طاقة كافية بين ( 1 و 10 ميلي واط ) ناقلة بذلك شيفرة محددة يتم التقاطها بواسطة اللصاقة الخاصة المتوضعة خارج الجسم، والتي تقوم بالتقاط الإشارة ومعالجتها ويبين الشكل كيفية عملها:
إن هذه الرقاقة كافية لمساعدة المرضى على تتبع أثر استهلاك الأدوية ومساعدة شركات الأدوية على المراقبة القريبة لسلوك المواد، وخصوصاً عندما يتم اختبارها على دواء جديد في التجارب السريرية.
ويمكن لهذه الأنواع من الأنشطة أن تساعد على توسيع التوجهين الحاليين في الطب: تشخيص الأمراض مبكراً وزيادة دقة العلاج، إلا أن تحقيق ذلك الحلم يعني التغلب على مجموعة من العقبات الهندسيّة والحيوية:
فعند التحدث بالمقاييس المجهرية يصبح تأمين الطاقة والحركة صعب للغاية، بالإضافة إلى أن العمل في جسم الانسان يطبق قيودًا إضافيّة: فعليك أن تُحافظ على مسار الروبوتات وتتأكد من أنها غير سامّة وغير مؤذية للأنسجة بالإضافة لذلك يجب أن تُصمم بحيث تحط بسلام في الجسم أو تترك الجسم حالما تنتهي مهمتها.
إن صنع التقنيات الصغيرة يتطلب حلولًا إبداعية، حيث لا يفضل الباحثون استخدام تكنولوجيا البطاريات الكيميائية التقليدية في مجال التصغير، لأن التقليص إلى أقل من 1 مم سيؤدي إلى خفض قدرة البطارية بشكل كبير، وكفكرة بديلة لنقل الطاقة لا سلكيًّا يتم التفكير بالأمواج الراديوية كتوليد الكهرباء من خارج الجسم وإرساله عبر الأمواج الراديوية، إلا أن هذه العملية تعتبر صعبة على المستويات الصغيرة. فلأجل الحصول على الطاقة ستحتاج الروبوتات إلى نوع من الهوائي الذي لا يمكن تصغيره جداً لكي يجمع قدرًا جيداً من الطاقة، إضافة إلى أنه يجب أن يكون قريباً نوعًا ما من مصدر الطاقة الخارجي مما يعيق ابتعاده داخل الجسم البشري.
ونظرًا لهذه القيود، يبحث المهندسون عن طرق جديدة لتوفير الطاقة لهذه التقنيات، كالدفع مثلًا. فأحد الخيارات تدور حول إنشاء صواريخ صغيرة كيميائية – تعتمد على التفاعل مع المواد في الجسم كالعصارات المعديّة مانحة إيّاها بذلك الحركة. يقوم الباحثون أيضًا بدراسة ما يمكن القيام به من خلال التهجين البيولوجي والذي يعني تسخير البكتيريا للسباحة لتحقيق هدف ما اعتماداً على إشارات وتغيرات معينة كالتغير في تركيز جزيء معين.
وقد يكون من الممكن في بعض الحالات القيام بما سبق ذكره دون أي مصدر محمول للطاقة وهذا ماطوره الباحثون وهي الروبوتات النجمية فهي أجهزة ذات قوابض دقيقة نجمية الشكل بطول أقل من 500 ميكرومتر من الطرف للطرف الآخر(بأبعاد أصغر من 10-100 مرة من أدوات وتقنيات أخذ الخزعة) ، يمكن أن تُصنّع هذه القوابض من مواد تستجيب للعوامل البيئية كدرجة الحرارة ودرجة الحموضة وحتى الأنزيمات بحيث تُغلق أذرع القابض الحساسة للحرارة عندما تتعرّض لحرارة الجسم، وعندما تتوضع بشكل مناسب ستنكمش الأذرع حول النسيج آخذة خزعة مصغّرة، وقد تم تصميمها من النيكل المغناطيسي ليسهل قيادتها بالحقل المغناطيسي، وزودت بمفاصل من الذهب والكروم ليسهل قبض الأذرع، وطبقة من البوليمير الذي يكون صلباً في درجات الحرارة المنخفضة ليحافظ على شكل الروبوت النجمي، ويلين تحت تأثير الحرارة ليسمح للأذرع بالانقباض على النسج وأخذ الخزعة.
فيما يلي فيديو يوضح كيفية عمل الروبوت النجمي :
يُمكن لمثل هذه القوابض أن تُقلل الحاجة للطرق الجراحية للكشف عن سرطان القولون لدى المرضى الذين يعانون من أمراض الأمعاء الالتهابيّة المزمنة. فبينما الإجراء التقليدي يحتاج للحصول على العشرات من العينات بواسطة الملاقط الجراحية وذلك في محاولة للحصول على تغطية جيّدة لعينات السطح الداخلي للقولون، بينما وفي استخدام هذه التقنية لن يحتاج الطبيب سوى لإدخال المئات أو الآلاف من هذه القوابض الدقيقة إلى القولون بواسطة أنبوب من ثم إسترجاعها باستخدام مغناطيس أو عن طريق غربلة براز المريض لاحقًا.
وبناء على اختبارات في الخنازير الحيّة، يقدّر فريق الباحثين أن حوالي ثلث القوابض تلتقط أنسجة بينما يمكن أن تفشل الأخريات وتعود خالية الوفاض وذلك بسبب التوجيه الخاطئ، أو الإغلاق قبل الوصول لأي شيء، لكنه واعتماداً على استراتيجية مأخوذة من عالم البيولوجيا: "إذا كنت تملك عدداً من الأجهزة غير المثاليّة، فمن الممكن أن تكون قادرًا على تحقيق نفس وظائف جهاز مثالي واحد".
يُعتبر الجهاز الهضمي مكان متسامح إلى حدّ ما للعمل داخله ، فهو كبير نسبيًّا مع سهولة الدخول له من الخارج، ويقوم بتمرير الكائنات تلقائيًّا خلال الجسم، بينما يتطلب استكشاف المواقع الحساسة كالعين، والدماغ، والدورة الدموية على الأرجح تصاميم روبوتات دقيقة وأكثر تعقيدًا.
إحدى العقبات الأساسية التي تواجه هذه التقنية هي احتمالية تحفيزها للجلطات إن فكرة وضع شيء في مجرى الدم تخيف الأطباء فهناك عواقب خطيرة فعلًا لأي نوع من الهياكل التي تطفو وتجول حرّة في جميع أنحاء الجسم.كما أن هناك وضع دقيق وبالغ الأهمية للروبوتات الدقيقة، فحتى الروبوتات السبّاحة الأكثر تطوّرًا وتعقيدًا قد تكون غير قادرة على مجابهة التيارات القوية في مجرى الدم، لذلك لازال هناك حاجة للتوجيه الخارجي لجعل الجهاز فعّالًا في الوصول لوجهته.
تعد شبكيّة العين أحد الأهداف للباحثين، فيمكن حقن الأدوية المصممة لعلاج الشبكية مباشرة في العين، حيث تنتشر ببطء، ويصل جزء صغير فقط من هذه الجرعة للهدف.بينما يمكن للروبوتات الدقيقة المحملة بالأدوية أن توصلها بطريقة أكثر استهدافًا فضلًا عن التقليل من الجرعات والآثار الجانبية.
من الاستراتيجيات الواضحة لقيادة الروبوت إلى البقعة الصحيحة هو تصميمها من المواد المغناطيسية ومن ثم قيادتها من الخارج عن طريق المغناطيس، وقد استخدم الباحثون أجهزة الرنين المغناطيسي للقيام بذلك مع الحيوانات. في حين يتابع باحثون العمل للحصول على تكوينات إلكترومغناطيسية أقل قوّة (من حقل جهاز الرنين المغناطيسي) وقادرة على التحكم بالروبوت بشكل أكبر.
تبين أن تحريك الروبوتات الدقيقة بالحقول المغناطيسيّة أمر ليس بالسهل ويحتاج لدراسة الآلية الرياضيّة والفيزيائية لذلك فلتحرك شيئًا بواسطة ذراع روبوتية وبأي طريقة كانت فإنك بحاجة إلى ستة مُشغّلات وذلك من أجل ست درجات من الحركة الحرّة. الحركة بالاتجاهات الثلاث x، y، z بالإضافة للدوران حول تلك المحاور. فقد احتاج الباحثون إلى ثمان لفائف مغناطيسية خارجية منفصلة ليتوصلوا إلى طريقة للتحكم الجيّد بروبوت مغناطيسي بخمس درجات من الحركة الحرّة إلا أن الدرجة السادسة تحتاج إلى روبوت دقيق بنظام مغناطيسي أكثر تعقيدًا من شريط مغناطيسي بسيط.
استطاع الباحثون استخدام مغناطيس للتحكم بروبوت حلزوني دقيق بحقول مغناطيسية أقل من 10 ميلي تيسلا، وهذا جزء مما يتم توليده بالرنين المغناطيسي. ويمكن تعديل هذه اللوالب لجعلها تمشي للأمام بحركة لولبية بنفس طريقة البكتريا القولونية التي تدفع نفسها بواسطة دوران سياطها.
لازال العلم يتقدم والتقنيات الروبوتية والنانوية في أوج ازدهارها إلى أين ستصل وهل ستوقفها حدود الحجم ؟ وتأمين مصادرة نانوية للطاقة؟ وهل سيصبح الروبوت جزءاً من دواء المرضى اليومي يجول في أجسادهم المنهكة هنا وهناك لإيصال الدواء وأخذ العينات وربما قد يجول في أجسام السليمين أيضا لينذرهم قبل حدوث الأمراض وينبئهم بوصول الدخلاء إليه لازال العلم يدهشنا ولازلنا في انتظار المزيد...
المصادر: