الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة
مصادر المعرفة
كل فرد منّا يمتلك مقداراً عظيماً من المعرفة. نحن لدينا معرفة عن أنفسنا، عن العالم من حولنا، عن الأفكار والمفاهيم المجرّدة. ولطالما تساءل الفلاسفة عن مصدر هذه المعارف ومن أين تنبع. فنحن نتعلّم الكثير من الأمور من الكتب، الإعلام، ومن الآخرين. ولكي نحصل على المعلومات من هذه المصادر، علينا أن نعرف مسبقاً عدّة أمور: كيف نقرأ، كيف نفكّر، وكيف نثق بهذه المصادر. ولكي نتعلّم هذه الأمور يتطلّب ذلك منّا أن تكون لدينا معرفة أكثر. إذن ما هي الطريقة النهائية لتحصيل المعرفة؟ وما الفرق بين الاتجاه التجريبي والاتجاه العقلي؟ إليكم هذا المقال.
هناك اتجاهين متلازمين فيما يتعلّق بموضوع المصدر النهائي للمعرفة:
• الاتجاه التجريبي empiricism .
• الاتجاه العقلي rationalism.
- الاتجاه التجريبي:
يشير الاتجاه التجريبي إلى أنّ جميع معارفنا مستقاة بالنهاية من حواسنا أو من تجاربنا، لذا فهذا الاتجاه ينفي وجود معرفة داخلية أصيلة متجذّرة، أي معرفة فطرية موجودة لدينا منذ لحظة ولادتنا. ويتناسب هذا الاتجاه مع النظرة العلمية للعالم، التي تؤكّد على التجريب والرصد والملاحظة. كما أنّ هذا الاتجاه يكافح من أجل تفسير أنواع معيّنة من المعرفة، كمعرفة المفاهيم الرياضية والتجريدية والمُثُل الأخلاقية.
- الاتجاه العقلي:
يشير العقلانيون إلى أنّ بعض معارفنا على الأقل تنبع من العقل وحده، وأنّ هذا العقل يلعب دوراً حيوياً في تحصيل جميع المعارف. ويزعم العقلانيون بأنّ للعقل دور رئيسي وحيوي في عملية الرصد والملاحظة، ولذا فالعقل أهم من الحواس في عملية تحصيل المعرفة على عكس التجريبيون. وهناك ثلاثة أنواع مختلفة من المعارف، يقدّمها العقليون لدعم وجهة نظرهم ولتقويض وجهة النظر التجريبية.
أولاً، قد يجادل العقلي بأننا نمتلك بعض المعرفة الداخلية. فنحن لانولد وعقولنا صفحة بيضاء نسجّل عليها تجاربنا وخبراتنا المعرفية كما اعتقد المفكر التجريبي جون لوك. إنّما قبل أن تتكون تجاربنا وخبراتنا عن العالم فإننا نمتلك بعض المعارف الضمنية الفطرية. فنحن نمتلك على الأقل بعض الغرائز الأساسية، كما أننا نمتلك بعض المفاهيم والأفكار الفطرية، كقدرتنا على تعلّم اللغة.
ثانياً، يجادل العقلي بأنّ هناك بعض الحقائق، مع أنها غير معروفة ضمنياً، إلا أننا يمكننا التوصّل إليها باستقلال عن التجربة. هذه الحقائق قد تكون رياضية أو منطقية أو أخلاقية. فيمكننا معرفة قانون الوسط المستبعد، وأن نجيب على العمليات الرياضية كالجمع والطرح، وتمييز الفرق ما بين الصواب والخطأ، من دون حتى أن نقيم تلك المعرفة على أساس التجربة.
ثالثاً، بقول العقلي أنّ هناك بعض الحقائق التي _مع أنها قد تكون قائمة جزئياً على أساس التجربة_ لايمكن التوصّل إليها بالتجربة وحدها. فالحقائق القيمية والأخلاقي وحقائق العلّيّة على سبيل المثال، أغلبها تندرج ضمن هذا النمط من المعارف. شخصان قد ينظران إلى الشيء نفسه، لكن كلّ واحدٍ منهما قد تكون له وجهة نظر مختلفة تتناقض مع وجهة نظر الآخر حول الجمال والقبح. فيبيّن هذا أنّ الخاصييات القيمية والأخلاقية لا نحصل عليها من خلال حواسنا، بل بالعقل. بنفس الشكل، نحن لا نرصد العليّة ولا نراها، كل مانراه هو أنّ حدثاً ما يعقبه حدثاً آخر، إنه العقل، وليس العالم، ذلك الذي يمنحنا شعوراً بأنّ الحادث الأول سبّب الحادث اللاحق بالضرورة.
- اتجاهات التجريبيين:
كما أسلفنا سابقاً، تنصّ النظرية التجريبية بأنّ الخبرة أو التجربة هي أساس المعرفة. كل ما نتعلّمه، حسب وجهة نظر التجريبيين، نتعلّمه عن طريق الحواس. لايمكن قيام معرفة حقيقية بدون تجربة، حتى لو كانت منطقية أو أخلاقية أو رياضية.
• التجريبية الكلاسيكية:
يتميّز الاتجاه التجريبي الكلاسيكي برفضه للمعرفة والمفاهيم الفطرية الضمنية. فيقول جون لوك المفكر التجريبي الشهير بأنّنا نولد وعقلنا صفحة بيضاء tabula rasa. في لحظة الولادة لانكون نعرف شيئاً، لاحقاً فيما بعد يؤسّس العقل معارفه عن طريق التجارب.
• التجريبية الراديكالية:
في أكثر أشكالها راديكالية، تنص الراديكالية المتشدّدة بأنّ جميع معارفنا مستمدة من الحواس. هذا الموقف يؤدّي طبيعياً إلى المبدأ التأكيدي القائل بأنّ معنى أي تصريح مرتبط بالتجارب والخبرات التي تؤكّده. وحسب هذا المبدأ، لا يتضمن زعمٍِ ما أي معنى إلا إذا كان من الممكن تأكيده واختباره تجريبياً. وبما أنّ جميع معلوماتنا تأتي من حواسنا، من المستحيل بالنسبة إلينا أن نتحدث عنها طالما أننا لم نختبرها. فالتصريحات والمزاعم التي لاترتبط بحواسنا لامعنى لها. هذا المبدأ، الذي يرتبط الآن بالموقف الذي بات يعرف الآن باسم بمذهب الوضعية المنطقية، و الذي يعتبر المزاعم الدينية والأخلاقية باطلة وغير منطقية وخالية من أي معنى. لا توجد أي أرصاد أو ملاحظات تؤكّد المزاعم الدينية والأخلاقية، لذلك هذا المزاعم فارغة. التجريبية الراديكالية تستلزم التخلّي عن الأفكار والمزاعم الدينية والأخلاقية.
• التجريبية المعتدلة:
معظم التجريبيين المعتدلين يقولون أنّه، في بعض لحالات قد لاتتدخّل الحواس في تكوين معرفتنا، لكنهّم يؤكّدون أيضاً أنّ هذه الحالات الاستثنائية، ماهي إلا شذوذ عن القاعدة العامة. الحقائق مثل "ليس هناك مثلث بأربعة أضلاع" و"7+5=12"، لاتحتاج للتحقق منها وتجريبها لكي تُعرَف، لكن جميع المعارف الرئيسية والحيوية تنبع من التجربة. هذا النوع من التجريبية أكثر توسّطاً واعتدالاً، وقد يكون أكثر معقولية ومنطقية من النوع الراديكالي.
مصادر وقراءات أخرى: