الطب > مقالات طبية
الإصابة بالديدان الشصِّية عند عمال المناجم: إحدى أهم الأمراض المهنية انتشاراً عبر التاريخ
يتوضَّع التعدين في أسفل قائمة المهن المرغوب بها.
تُعتَبر المخاطر التي يواجهها الشخص عندما يمارس أقدم مهن الإنسانية، الحفر عميقاً في الأرض لإيجاد كنوزها الكامنة على هيئة حجارٍ ومعادنٍ ثمينةٍ، مروِّعة.
تعتبر هذه المهنة إحدى أخطر المهن في العالم، وفي عام 1950 شهدت أخيراً صناعة التَّعدين في الولايات المتحدَّة تراجعاً ملحوظاً في نسبة الوفيات.
• لا يتعرَّض عمال المناجم فقط لمراضةٍ مرتفعةٍ بشكلٍ كبيرٍ بسبب ظروف العمل التي تعتبر بحدِّ ذاتها أكثر صعوبةً وتحديَّاً من التي تفرضها الشركات (من الساعة 9 – 5)، ولكنَّهُم يواجهون أيضاً زيادة معدل انتشار الإصابة بالأمراض المعدية.
• تكثُر الأمراض الجلدية والتنفسية في المناجم، الطفيليات المدارية مثل الملاريا (Malaria) والدَّنك (dengue) يمكنها أن تصيب العمال في المناطق الأكثر مدارية، كما أنَّ القوارض في المناجم الضيقة يمكنها أن تنشر داء البريميات وأمراضاً أخرى.
• بينما هذه الأمراض ما زالت شائعةً في المناجم المتواجدة في البلدان النامية، فإنَّ الولايات المتحدَّة والعالم المتقدِّم ساهموا بالقضاء بشكلٍ واسعٍ على هذه الأمراض.
فيما يتعلق بالأمراض، غالباً ما يترافق التَّعدين بالإصابة بالسِّل (tuberculosis) والرئة السوداء، ورغم ذلك هنالِك خطرٌ غير متوقَّعٍ شكَّل عبئاً كبيراً خلال تاريخ التعدين ابتداءً من أوائل القرن العشرين وهو: الدودة الشصِّية الماصَّة للدَّم.
• تمتلك الأنكلستوما الاِثْناعَشَرِيَّة (Ancylostoma duodenale) توزعاً جغرافياً مميزاً جداً، فهي انتقائيَّةٌ بما يخص درجة الحرارة، والرطوبة ونوع التربة التي سوف تضعُ البيوض واليرقات فيها، ولذلك فالمستويات المرتفعة من الأملاح المعدنية المنحلة في التربة الرطبة في المناجم تحت الأرض يحرِّض على نمو مثل هذه الطفيليات.
• تنمو هذه الديدان بشكلٍ جيد في البيئة الرطبة ولكنها تختنق بارتفاع الحرارة والذي يزداد كلَّما ابتعدنا عن سطح المنجم، كما تتعزَّز دورة حياتها إذا أهمل الإنسان اتباع القواعد الأساسية في الصحة العامة.
تمتلِك الديدانُ الشصِّية دورة انتقالٍ رديئةٍ بشكلٍ ملحوظٍ: فالإنسان يُلقي باليرقات مع الغائِط، والتي، وبعد فترةٍ قصيرةٍ من النمو و النضج تنفذ إلى قدمٍ حافيةٍ لأشخاصٍ غافلين.
تنتقل اليرقات عبر باطن القدم الثخين والجلد، ومن ثم خلال الشرايين والأوردة، إلى الرئتين ذات التروية الدموية الجيدة، وتصعد بعدها إلى الحنجرة، وفي النهاية تخرج من الحنجرة ليتم بلعها ونقلها إلى الأمعاء.
وتنتهي رحلتها في الأمعاء الدقيقة حيثُ تنضج إلى الشكل البالغ وتلتصق على جدران الأمعاء لتتغذى على الدم، وبالتالي قد تصيب المضيف بفقر الدم.
• لسوء الحظ، تشيرُ الحسابات التاريخية إلى أنَّ التغوُّط بشكلٍ عشوائيٍّ في المناجم كانَ يعتبرُ أمراً مقبولاً بشكلٍ واسعٍ وذلكَ حتى أوائل القرن العشرين.
• كانت الساعاتُ التي يقضيها عمَّال المناجِمِ بعملهم طويلةٌ، وأيضاً كان الصعود إلى السطح لأجلِ التغوُّط يحتاج وقتاً إضافياً بعيداً عن العمل، لذا توجَّب حماية العمَّال حتَّى ضمنَ هذا الوقت الإضافي من قبل إدارة الصحة والسلامة المهنية (Occupational Safety and Health Administration) (OSHA) أو وكالاتٍ أخرى مشابهة.
• ولكن، حتى في عمليات التعدين التي يتم فيها تأمين الرفاهية لعمال المناجم وذلك بالسماح لهم بعدم التغوط في مكان عملهم، فإنَّ التلوث كان شائعاً، كما وصف أحد الباحثين: "كان عمال المناجم يترقَّبون الصعود إلى السطح للتغوُّط عند الضرورة، وكانت النتيجة أنَّهم اعتبروا ذلكَ ملاذاً آمناً لهم لطلب الراحة وللتهرُّب من العمل".
• إنَّ الغائط الذي يحتوي على يرقات الدودة الشِصِّية سوف يتِم نشره في كل مكان في المنجم وحتى على درجات السلم، وبذلك يقوم العامل المصاب بنقل العدوى إلى زملائه بشكلٍ غير مقصودٍ، وخاصة العمال الذين كانوا يعملون بأقدامٍ حافيَةٍ أو يرتدون أحذيةً غير ملائمةً، حيث يزداد خطر الإصابة عند هؤلاء بشكل ملحوظ.
• إنَّ العدوى بالديدان الشِصِّية واسعة الانتشار بين عمال المناجم وذلك إلى ظهور أعراض مرافقة لهذه المهنة: شحوب الجسم والسعال المتكرِّر الناجم عن أمراض الرئة، وذلك بسبب عسر التنفُّس وفقر الدم الناجم عن عوز الحديد الشديد المُرافِق للإصابة بهذه الطفيليات الماصَّة للدَّم.
• في الواقع، لقد اعتُبِرَ "فقر دم المُعَدِّنين" الاسم المستعار للعدوى بالأنكلستوما لقرونٍ عديدةٍ، بالإضافة إلى ألقابٍ أخرى مثل "مرض النفق"، "حِكَّةُ المُعَدِّنين".
• لعدة قرونٍ، اعتُقِدَ أنَّ فقر الدم المنتشر بين العمال في مهنة التعدين كان نتيجةً للحرمان المستمر من أشعة الشمس والتعرض للفحم، ومَع توضيح طريقة انتقال الدودة الشِصِّية بشكلٍ كاملٍ في أواخر القرن الثامن عشر، تم نَسب فقر الدم عند هؤلاء العمال إلى دودةٍ تنمو في التربة الرطبة، وتعيش بشكلٍ مرتفعٍ في البيئة الفقيرة صحيَّاً ألا وهي (الانكلستوما الاثناعشرية).
• تمَّ تقييم امتداد عدوى الدودة الشِصِّية بشكلٍ مناسبٍ عند منتصف وحتى أواخر القرن العشرين، حيث تمَّ تسجيل المرض في الولايات المتحدة، أستراليا وجزء كبير من أوروبا.
وقد وُجِدَ هذا المرض في مناجم الذهب والفضة في هنغاريا، ومناجم الكبريت في صقلية، ومناجم الفحم المنتشرة في ألمانيا، هولندا، بلجيكا وفرنسا.
• تمَّ تقدير عمال المناجم الذين يعانون من فقر الدم في النمسا وحتى أواخر القرن الثامن عشر بنسبة 20-90%.
• وتمَّ وضع مقاييسٍ صحيَّةٍ وتقديم أدويةٍ فعالةٍ لقتل الديدان منذ بداية ولغاية منتصف القرن الثامن عشر، ممَّا ساهم في اختفاء الديدان الشِصِّية من المناجم، والتي كانت تُعتبر، باختصارٍ، مرضاً مهنياً صناعياً.
رُغمَ أنَّ التعدين يعتبرُ عملاً محفوفاً بالمخاطِر ومُهدِّداً بالموت، كذلك كانت هذه الديدان مصاحبةً له لفترةٍ طويلةٍ، ولعدة قرون كان مستوى الصحة المناسب للمناجم أمراً ثانوياً بالمقارنة مع تساقط الصخور، الانفجارات، الفيضانات والانهيار.
• ولهذا السبب استغلَّت الديدانُ الشِصِّيةُ أمرين أساسيين اعتماداً على إغفال المستوى الصِّحي لمهنة التعدين قبيل القرن العشرين و هما: ثقافة عدَم التدخُّل بمكان التغوُّط (laissez-faire defecation) وسوء تغطية الأقدام.
وبالتَّالي، كانت إصابة العاملين في المناجم بعدوى الديدانِ الشِصِّيةِ شائعةً كالإصابة بسعالٍ بسيطٍ أو الخطو الحتمي وغير المرغوبِ به على شيءٍ ما في الطريق إلى العمل.
المصدر: