الفيزياء والفلك > فيزياء
ما هو اللف الذاتي Spin
عندما تتحرك جُسيماتٌ أوليةٌ محدَّدةٌ ضمن حقلٍ مِغْناطِيسيّ فإنها تنحرف بطريقةٍ تَشِي بأن لها خصائص المغانط الصغيرة. ووفقاً لقوانين الفيزياء التقليدية (الكلاسيكية) يكون للأجسامِ المشحونةِ الدوّارةِ حول نفسها، أي التي تمتلك " لفاً ذاتياً "، خصائصُ مغناطيسيةٍ تتشابهُ كثيراً مع تلك التي لدى الجسيمات الأولية. ولأن الفيزيائيينَ يعشقون التشبيه، فقد اعتبروا أن للجسيماتِ الأوليةِ لفاً ذاتياً "سبين ".
لكن هذا التشبيهَ يفتقد للدقة، كما أنه يستدعي تصوُّرًا مغلوطًا للإلكترون على أنه جسيمٌ صغيرٌ يدور حول نفسه، لذا علينا أن نرضى بقبول الحقائق المرصودة بأن الإلكترون ينحرف ببساطةٍ لدى تعرُّضه لحقلٍ مِغْناطِيسيّ. ولو أن أحدًا أصرَّ على تشبيههِ بالجسيمِ الدوَّار، فستبرزُ مجموعةٌ من التناقضات، منها أن الإلكترون، خلافاً لكرةٍ صغيرةٍ مقذوفةٍ مثلاً، لا يغيرُ اتجاهَ دورانُهِ أبدًا، وليس لدورانهِ أساساً إلا اتجاهينِ فقط. كذلك فإن فكرةَ أن الإلكترون والبروتون هما "جسمان" صَلبان يمكنهما "الدوران" في الفراغ لا يمكنُ أن تصمدَ إذا ما أخذنا بالحسبان ما نعرفه من قواعد ميكانيك الكم. ومع ذلك بقي مصطلح "اللفِّ الذاتيِّ" مستخدمًا.
خلفية تاريخية:
مع بداية عشرينات القرن العشرين، أجرى العالمان أوتو شتيرن Otto Stern وفالتر غيرلاخ Walther Gerlach من جامعة هامبورغ، مجموعةً من التجاربِ الهامةِ على حُزمِ الجسيماتِ الذرية. فمن المعلوم لديهم أن جميعَ الشّحناتِ المتحركة تولِّد حقولًا مِغْناطِيسيّة، وحاولوا بناءً على ذلك قياسَ الحقل المتولِّد عن دوران الإلكترونِ حول النَّواة في الذَّرة. ما أثارَ دهشةَ العالمينِ اكتشافُهم أن الإلكترونات تتصرف وكأنها تدور حول نفسها بسرعةٍ كبيرة، ما يؤدي إلى نشوءِ حقولٍ مِغْناطِيسيّة ضئيلةٍ جدًا، مستقلةٍ عن الحقول الناجمة عن حركتها المداريةِ حول النّواة. فأصبح مصطلح "اللف الذاتي" مستخدمًا لتوصيفِ هذا الدورانِ الظاهريِّ للجسيماتِ دونَ الذرية.
يُعد " اللف الذاتي" كميةً فيزيائيةً غريبة، فهي تُشابه دوران الكوكب حول نفسها، إذ يُعطي للجسيم عزمًا زاويًا ويولِّد حقلًا مِغْناطِيسيّاً ضئيلًا يسمى بالعزم المغناطيسي. واستنادًا إلى أحجامِ الجسيماتِ المعروفةِ، ينبغي لسطح هذه الجسيمات أن يتحرك بسرعةٍ تفوق سرعة الضوء ليكون بالإمكان توليد مثل هذا الحقل المغنطيسي الذي ينتج عنه العزم المغنطيسي المقاس. كذلك فإن للَّفِّ الذاتيِّ قيمةً مُكَمَّاةْ، بمعنى أن له قيماً منفصلةً محدَّدة. تؤدي جميعُ هذه العواملِ إلى أن يكون " اللف الذاتي" واحدًا من أكثر المفاهيم إثارةً للجدل في ميكانيك الكم.
يكون " اللف الذاتي " بالمعنى الواسعِ خاصيةً أساسيةً تؤثر في ترتيب الإلكترونات والنُوى في الذرات والجزيئات، ما يعطيه أهميةً فيزيائيةً كبرى في فيزياء الجسمِ الصَّلب والكيمياء. ويجب أخذ " اللف الذاتي" بعين الاعتبار في جميع التآثرات (التفاعلات المتبادلة) بين الجسيمات دون الذرية، سواءٌ في حزم الجسيمات ذات الطاقة العالية، أم الموائعِ منخفضةِ درجةِ الحرارة، أم التدفق الرقيق للجسيمات من الشمس و المعروف باسم الرياح الشمسية. وفي الحقيقة فإن العديد، إن لم يكن معظم العمليات الفيزيائية، التي تمتد من المقاييس النوويِّة الأصغرِ وحتى المسافاتِ الفلكيِّة الأبعد تعتمد بشكلٍ كبيرٍ على تآثر الجسيماتِ دونَ الذرية و"اللف الذاتي" لهذه الجسيمات.
خلفية علمية:
يُمثِّل " اللف الذاتي" العزمَ الزاوي الكُلِّي، أو العزمَ الزاوي الداخلي، للجسم. يُشبِه "اللف الذاتي" للجسيمات الأولية " اللف الذاتي" للأجسامِ الكبيرة. فمثلًا عزم اللف الذاتي لكوكب ما هو مجموع قيم عزوم اللف الذاتي والعزوم المدارية لجميع جسيماته الأولية. وكذلك الأمر بالنسبة للأجسام المركبة مثل الذرات والنوى الذرية والبروتونات التي تتكون من الكواركات.
يأخذ العزم الزاوي في الفيزياء التقليدية قيماً ضمن مجالٍ مستمرْ. في حين يأخذ في الميكانيك الكمومي قيماً منفصلة، هي مضاعفات ثابت بلانك مقسومًا على أربعة أضعاف العدد بِيْ (π). اقترح نيلز بور Niels Bohr في العام 1913 أن يكون العزمُ الزاويُّ مُكمَّاً، واستفاد من هذه الفكرة في تفسير طيف الهيدروجين.
وفقاً لفهمنا الحاليّ، فإنّ الجسيمات الأولية هي: الكواركات، واللبتونات (كالإلكترونات مثلاً) والبوزونات (كالفوتونات مثلاً). ثلاثةُ جسيمات نتصور أنها نُقطية، لذا يُطرح التساؤل: كيف يمكن أن يكون لها " لفاً ذاتياً " ؟ الجواب الأسهل هو اعتبارها جسيماتٍ مركبة، ولكن بعض الاسباب النظرية العميقة تدفعنا لافتراض وجود اللف الذاتي للجسيمات. تتعلق هذه الأسباب النظرية بعدم تغير قوانين الفيزياء التي تصف تفاعلات هذه الجسيمات في حال نظرنا للجسيمات من زاوية مختلفة (أو في حال دورنا جملة الجسيمات بزاوية ما) . ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى الفارق بين الفيرميونات؛ وهي جسيماتٌ ذات قيمٍ "للفِّ الذاتي" تساوي نصف أمثالٍ صحيحةٍ من ثابت بلانك (مقسوماً على 2 بِيْ 2π)، وبين البوزونات؛ وهي جسيماتٌ ذاتُ قيمٍ للفِّ الذاتيِّ تساوي أمثالاً صحيحةً من ثابت بلانك (مقسوماً كذلك على 2 بِيْ 2π ). تخضع الفيرميونات لمبدأ الاستبعاد الذي وضعه باولي Pauli، وينصُّ على أنه لا يمكن لجسيمين من الفرميونات أن يكونا في الحالة الكموميةِ نفسها. ولولا مبدأ الاستبعاد ما كانت الكيمياء لتفاخر بالجدول الدوري. ومن ناحيةٍ أخرى فإن البوزونات تميل للاحتشاد في الحالة الكمومية نفسها، ما يؤدي إلى ظواهرَ من قبيل الناقليةِ الفائقةِ أو كثافةِ بُوزِ – أينشتاين.
استُخدم " اللف الذاتي " أنموذجًا لغيره من المفاهيم الأكثرِ تجريدًا و التي ظهرت باعتبارها خصائص رياضية للعزم الزاوي دون أن يكون لها تشبيهٌ تقليدي بسيط. فعلى سبيل المثال، يُستخدم " اللف الذاتي النَظَائِريُّ isotopic spin " في الفيزياء النووية للدلالة على إحدى حالتي النوكليون، أي البروتون أو النيوترون. وبالمثل فإن الكْوَارْكَات تقترن على شكل أزواج ذاتِ لفّ ذاتي نظائري، فيكون لدينا كوارك علوي up وكوارك سفلي down وهما الكواركان اللذين يُشكِّلان المادة العادية. إن فكرة التناظر الدوراني للقوانين الفيزيائية وعدم تغيرها عند النظر للجملة من زاوية مختلفة كما ذكرنا تم تعميمها لتتضمن تناظرات دورانية في أبعاد مختلفة عن الأبعاد المكانية والزمانية المألوفة لدينا في حياتنا اليومية. وبرغم كونها تناظرات رياضية مجردة ولكن نتائجها على وصف عالمنا كبيرة جداً وكذلك يمكن فهم تنوعات الجسيمات المعقدة في بعض الأحيان على أنها حالات لا تتمتع بهذه التناظرات فيما يسمى "كسر التناظر". عدم التناظر التام هذا بحسب بعض الافكار المطروحة قد يؤثر بدوره في تشكيل بعض البنى الأكبر التي يمكن أن نراها في حياتنا اليومية.
المصدر: هنا