تربة الأرض وليدة صخرها ومناخها بتقادم الزمن

نوقشت عوامل تكوين التربة بالشكل الذي نعرفها عليه اليوم نهاية القرن التاسع عشر حيث قـُـدمت التربة على أنها ليست مادةً خاملةً أو مستقرة بل متطورة تبعاً للعوامل المناخية والغطاء الإحيائي العاملين على ركيزة جيولوجية معينة تدعى الصخرة الأم.

يؤثر في تشكل التربة العوامل الأساسية التالية:

المادة الأم:

الصخرة أو المادة الأم Parent material هي المادة التي تتشكل عنها التربة (هي الصخور أساساً) وتؤثر خواصها بشدة في تطور التربة المتشكلة لاحقاً من حيث تركيبها المعدني، مساميتها، نفاذيتها ودرجة تجمعها. بمعنى أنها مجموع المواد العضوية والمعدنية التي يبدأ منها تكون التربة. تضم التربة معادن أساسية وُرثت من المادة الأم وثانوية تشكلت بفعل تغيرات كيميائية جوهرية أو تغيرات في هيكلية المعادن الأولية. هذا التأثير الذي تمارسه المادة الأم يتناقص تدريجياً أمام العوامل الأخرى كلما اتجهت التربة نحو النضج.

لا تؤثر المادة الأم فقط في نوعية التربة المتشكلة وإنما في معدل تطورها ويكون تطور التربة أسرع بالمواد الأكثر نفاذيةً للماء أما المواد الكثيفة والثقيلة فتقاوم عمليات تكوين التربة. تتكسر الأحجار الجيرية والرملية والصخر الزيتي والجرانيت والرخام خلال التجوية متحولةً إلى بقايا ورواسب تشكل التربة فيما بعد.

المناخ:

تعتبر التربة التعبير الطبيعي عن البيئة التي تتشكل فيها ويشمل المناخ؛ الظروف الجوية المحيطة بالتربة من حرارة وأمطار ورطوبة ... الخ. يحدد المناخ أساساً كمية المياه المتاحة والمتوفرة لتجوية المعادن ونقلها وتحرير العناصر كما أن لدرجة الحرارة تأثيراً على معدل التجوية الكيميائية. تسبب الأمطار الرشح ويذيب الماء بعض المعادن كالكربونات ناقلاً إياها لأعماق التربة مما يفسر سبب وجود ترب حامضية رغم تشكلها من الحجر الجيري limestone.

تؤثر الحرارة والأمطار والرياح والصقيع في التجوية ومعدلاتها بنوعيها الفيزيائي والكيميائي. مثلاً: الماء المتسرب في شقوق الصخور يتجمد فيزداد حجمه مؤدياً إلى تكسيرها. بالإضافة إلى تأثير المناخ غير المباشر على الغطاء النباتي؛ إذ تشجع المناخات الدافئة الرطبة على نمو النبات السريع مما يزيد محتوى التربة من المواد العضوية والعكس صحيح في المناخات الباردة.

الطبوغرافية (التضاريس):

تشير إلى تكوينة سطح الأرض حيث تتضمن تضاريس الموقع من اختلافات نسبية في الارتفاع وإحداثيات إضافةً للشكل العام للسطح. تعتبر هذه الصفات وسيطةً في مدى تأثير المناخ من إشعاع شمسي وهطول ورياح في التربة؛ مثلاً: تنتقل المياه والمواد الصلبة من المواقع المرتفعة إلى المنخفضة بحكم الثقل الناتج عن الجاذبية وتتأثر حركتها بتدرج المنحدرات ودرجة اتصال شبكات التصريف وبالتالي تمارس التضاريس تأثيراً قوياً على الطاقة والمادة التي تؤثر في تشكل التربة.

تختلف التربة الأكثر جفافاً في المرتفعات لتحرك الماء نحو المنحدرات عن تربة السهول حيث تتراكم المياه. توازن المياه والأوكسجين في التربة ضروري للنبات وبالتالي فالمناطق المنخفضة الغدقة قد تكون محرومة من تأثير نمو وتغلغل جذور النبات.

يؤثر اتجاه المنحدر أيضاً من بين التضاريس في التربة إذ مثلاً تعتبر معظم الترب على المنحدرات الشمالية أكثر رطوبةً وبرودة منها على الجنوبية في الولايات المتحدة، كما تميل تربة المنحدرات الشمالية لتكون أكثر سماكةً.

العوامل الحيوية (الأحياء):

تعتبر عاملاً مستقلاً ممثلاً بالكائنات الحية في النظام البيئي وتشمل الميكروبات والنباتات والحيوانات التي تدخل النظام أو تعيش فيه خصوصاً تلك التي تستخدم التربة كملجأ للتكاثر والعيش. يساهم نشاط الأحياء بإضافة وإزالة ونقل المادة بواسطة الطحالب والأشنيات، الفطريات والبكتريا، الديدان الخيطية والقراديات Acarians وديدان الأرض، النمل والخنافس، الكلاب والطيور، إضافةً للأشجار والأعشاب وغيرها. تؤثر الكائنات الحية بالصفات الكيميائية والمورفولوجية والفيزيائية والمعدنية للتربة إما كأفراد أو جماعات وبمنتجاتها الاستقلابية المباشرة أو بأجسادها الميتة المتحللة في التربة.

تساهم الأشجار عميقة الجذور في تشكيل التربة أكثر من النباتات سطحية الجذور إذ تخلق الجذور الكبيرة الضاربة عمقاً مسارات تسمح بحركة أكبر للمياه. يعمل الدبال* الناتج عن الأحياء الدقيقة أيضاً كغراء يجمع حبيبات التربة جاعلاً التربة متوازنةً بشكل مثالي. يستثني أحد النماذج (Jenny’s model) الذي يدرس العوامل المؤثرة في تشكل التربة العامل الإحيائي، مما يسمح باستخدامه في الدراسات الجيوكيميائية بين الكواكب حيث لا حياة وبالتالي قد لا يجوز أن نطلق لفظ "تربة" على المادة التي تكسو سطح الكواكب عندما نستخدم نماذج أخرى تراعي وجود العامل الإحيائي.

الزمن:

إن عملية تكون التربة عملية مستمرة تأخذ بضعة آلاف من السنين حتى تظهر تغيرات ملحوظة، وعند الحديث عن الوقت كأحد عوامل تشكل التربة فإننا نعني به: الفترة المنقضية منذ بدء تعرض النظام للعوامل الخارجية حتى الوقت الحالي حيث تمر بعض النظم بنقطة بداية تتمثل بوصول ترسبات نهرية أو انفجار بركاني أو اضطراب بيئي رئيسي. لابد من مرور الزمن حتى تتشكل آفاق التربة فكلما زاد وقت تعرض سطح التربة لعوامل التشكل كالمطر ونمو النبات كان تطور آفاقها أكبر، وكلما تقدمت التربة بالعمر تتحطم المعادن الأصلية وتتشكل أخرى جديدة. شهدت العديد من الترب الأقدم من الهولوسين Holocene واحداً أو أكثر من التغييرات المناخية الكبيرة مما جعلها تمتلك خصائص يرجح أن تكون ناتجةً عن التأثير المعقد لعدة مراحل تطورية للتربة تدعى بالترب الغابرة Relict soils.

لابد من الإشارة إلى أن مجتمعاً يشهد انفجاراً سكانياً كالذي نعاصره اليوم لابد معه من إضافة البشر إلى قائمة العوامل المؤثرة في تشكل التربة وعلى عكس الكائنات الأخرى فللبشر القدرة على التفكير وبينهم اختلافات ثقافية مجتمعية تعمل بشكل مستقل عن تركيبهم الوراثي، فالبشر يؤثرون في العمليات البيئية على المستوى العالمي مثل إزالة الغابات أو التشجير، الرعي، الزراعة، التحضر، بناء المدن، التعدين والتنقيب، التلوث والتفجيرات والاستغلال المفرط للوقود الأحفوري. يضاف أيضاً إلى ما ذكرناه من عوامل طبيعية؛ الأحداث الاستثنائية كالحرائق الطبيعية، الزلازل، الفيضانات، البراكين والنيازك.

بعد أن تعرفنا على العوامل التي تؤثر في تشكل التربة، بات بديهياً سبب عدم تشابه الترب لاختلاف ظروف وأماكن تشكلها فلابد وأنك لاحظت اختلاف الترب عند سفرك مسافات بعيدة بين منطقة وأخرى، لكن السؤال: هل يمكن توقع صفات التربة، مادتها الأم، مكوناتها، مصيرها ومشاكلها المحتملة بالنظر إليها فقط؟! ...

بم قد يخبرنا لون التربة؟

يعتبر لون التربة أول ما يلاحظه المرء والذي قد لا يماثل بالضرورة لون قطاعاتها وآفاقها العميقة. التربة السطحية المرئية أغمق لوناً غالباً مما تحتها لتراكم المواد العضوية الداكنة فيها. يعود لون التربة لثلاث مصادر أساسية هي المادة العضوية (داكنة اللون) - أكاسيد الألمنيوم (التي تعطي اللون الأحمر) والسيليكات (المسؤولة عن اللون الابيض)، يسمح اللون بمعرفة بعض خصائص التربة كالتركيب المعدني وعمر التربة كما قد يعكس غنى محتواها المائي لفترة طويلة من الزمن إذا يسبب ذلك تغيرات في معدلات الأكسدة، كما يسهل اللون تمييز آفاق التربة. ويمكن للون أن يكون مؤشراً مفيداً لبعض خواص التربة ولبعض العمليات الكيميائية الحاصلة فيها:

اللون الأسود:

التربة السوداء غنية بالدبال والمواد العضوية أو تحوي نسبة عالية من معادن الطين المعروفة بـ montmorillonite التي تسبب ظهور شقوق عميقة في التربة عند جفافها ويرتبط ذلك بصعوبة حراثتها وإدارتها. قد تعاني هذه الترب من نزع النيتروجين (Denitrification) وهو عملية إرجاع النترات بمساعدة الميكروبات التي تنتج في النهاية النيتروجين الجزيئي (N2) عن طريق سلسلة وسيطة من النواتج الغازية من أكاسيد الآزوت. قد يكون وجود الفحم سبباً للون الأسود أحياناً أو قد يعود هذا اللون لوجود مركبات الحديد والمنغنيز المرجعة.

اللون الأبيض:

عادةً ما تكون الترب الشاحبة مغسولة بمعنى فقدانها للجسيمات الحاوية على الحديد والمغنيزيوم بسبب الهطول الغزير أو الصرف. يرجع سبب اللون عادةً إلى وجود كربونات الكالسيوم والجبس والأملاح الذائبة. كما قد ينتج اللون الفاتح عن ارتفاع نسبة الرمل لانعكاس الضوء عن بلورات الكوارتز المشكلة للرمل. تعاني هذه الترب من خسارة المغذيات وانخفاض نسبة الماء المتاح للنبات فيها.

اللون الأحمر:

يدل على جودة صرف التربة ويكون الحديد متأكسداً بسهولة لغناها بالأوكسجين. تطلق معادن الطين المعرضة للتجوية أكاسيد الحديد والألمنيوم كالهيماتيت hematite وهو لون مفضل في ترب المناطق ذات موسم الجفاف القاسي والطويل كمنطقة البحر الأبيض المتوسط. يكون الفوسفور أحد أهم مغذيات النبات مثبتاً فيها كما قد ينخفض الماء المتاح للنبات.

اللون الأصفر (أو البرتقالي):

صرف هذه الترب أقل من الترب الحمراء وتكون مركبات الحديد فيها مرتبطةً بالماء (hydrated). قد تعاني من الرص compaction.

اللون البني:

ينتج عن توازن أكاسيد الحديد والمواد العضوية بمعنى أنها تربة وسط بين الحمراء والداكنة.

اللون الرمادي المخضر أو Gley: (الصورة أدناه)

تعاني ضعف الصرف وهي مشبعة بالمياه فقيرة التهوية غدقة إذ تدفع هذه الظروف بالمغنزيوم والحديد لتشكيل المركبات التي تعطي هذا اللون. قد تعاني من خطر انبعاث الميثان.

أخيراً؛ جرب الابتعاد عن المنطقة التي نشأت وعشت فيها ثم عد إليها بعد فترة من الزمن، من المرجح أن يكون لون تربتها (إذا كانت منطقة مكشوفة) أحد الأشياء التي ستفتقدها فهذا اللون الممتد سيكون انطبع في ذاكرتك وستحن إليه إن افتقدته تماماً كما ستسعد برؤيته مجدداً. قد لا يكون الرابط بين الإنسان وتربة وطنه موثقاً علمياً لكن الأكيد أن التربة مصدر طبيعي أساسي نعتمد عليه للبقاء شئنا أم أبينا لذلك وجب الاهتمام بالحفاظ على التربة من المشاكل التي تواجهها والتي سنتطرق إليها في المقال القادم من هذه السلسلة.

المصادر:

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا

للتوضيح:

(*) الدبال: جزء غير متبلور من المادة العضوية في التربة يعتبر مادة معقدةً للغاية وغير مفهومة تماماً، داكنة اللون إسفنجية القوام يمكنها أن تبقى على هذه الحالة لآلاف السنين. ليس لها شكل أو هيكل أو وصف محدد، ثابت كيميائياً، يغذي الأحياء الدقيقة وعليه مواقع نشطة سالبة الشحنة تربط الأيونات الموجبة التي يعتبر بعضها مغذيات ضرورية للنبات. يظهر فحصها تحت المجهر بقايا نباتية وميكروبية محطمة ميكانيكياً وليس كيميائياً. ينتج بعملية تدعى التدبـّـل الذي يحدث بعد تشكل المادة العضوية البسيطة وتحولها تحت تأثير المتعضيات المجهرية إلى أحماض دبالية تتنافر مع الجزيئات الطينية وإذا ما توفر بالوسط أملاح معدنية فإن هذه الأخيرة ترتبط بالأحماض الدبالية من جهة وبالجزيئات الطينية من جهة أخرى مكونة المركب الطيني الدبالي.