الاستبدال الطبقي العمراني: ماهيته – آثاره – أمثلة عالمية عن الاستبدال الطبقي

يعد مفهوم وعملية الاستبدال الطبقي العمراني من أكبر التحديات التي تواجه مدننا في هذا العصر. هذا الموضوع يعتبر من أهم وأكثر المواضيع الرائجة حالياً على كافة الأصعدة من محاضرات، نقاشات، ندوات وورش عمل. بعض الباحثين من المؤيدين المخلصين لهذه العملية والبعض الآخر من أشد المعارضين. لكن يبقى السؤال: ما هو الارتقاء الطبقي العمراني؟ ولماذا استقطب الجدل الحالي؟ ما هو تأثيره في مجتمعاتنا وما هي أهم ميزاته وسلبياته؟ هل يمكننا المساعدة في الحدّ من انتشاره أم يتوجب علينا تشجيعه؟

يعمل الاستبدال الطبقى من حيث المبدأ على "تحسين" ورفع سوية الأبنية في مناطق محددة ضمن المدن، وذلك بالاعتماد على مجموعة من سياسات التطوير العمراني. هذه السياسات تهدف بشكل أساسي إلى زيادة الاستثمارات الترفيهية والاستهلاكية، متزامنة مع رفع القيمة الإيجارية للوحدات السكنية فى هذه المناطق بعد "تحسينها". هذه العملية تدفع سكان المنطقة المحسنة الأصليين إلى ترك هذه الأحياء وفسح مجال للطبقات الأغنى للانتقال عوضاً عنهم.

منذ سنوات تقوم أعداد مهمة من النشطاء الميدانيين والمخططين العمرانيين بانتقاد هذه السياسة عن طريق مقالات وأبحاث وتجارب متنوعة إلا أن أبرزها هي المقالة التي كتبتها آنالي نيوتز Annalee Newitz علىBlog يدعىio9 بعنوان "هذه هي حقيقة الارتقاء الطبقى العمراني This is What GentrificationReally Is. " هذه المقالة توضح لنا أن هذا المفهوم يتخطى الصراع بين الخير والشر الذي يظهر للوهلة الأولى، فالاستبدال الطبقي العمراني هو عبارة عن عملية تعكس المناخ الاقتصادي والسياسي والطبيعة المتقلبة لواقع ومتطلبات التنمية العمرانية نفسها. كما أنّ مواجهة هذه الظاهرة في حالات عديدة يؤدي إلى تفاقمها عوضاً عن تحقيق النتائج المرجوة في الحدّ منها.

من البديهي أن تكون النفوس مشحونة بالكراهية تجاه "المستبدَلين" الأغنياء الذين انتقلوا ورفعوا أسعارالمنطقة، مما دفع السكان الأصليين إلى الرحيل. إلّا أنّ ما يجري في هذه الفراغات العمرانية سريعة التغيّر أعمق من ذلك بكثير، حيث يمكن اعتبار الاستبدال الطبقي شكلاً من أشكال الهجرة –على الرغم من أنّ أحداً لا يسميه كذلك-، حيث يُزرع الوافدون الجدد في المدينة ويقوموون بتغييرها بما يتناسب مع نزواتهم واحتياجاتهم الثقافية الخاصة. ولهذا تبدو الانتقادات الموجهة لعملية الاستبدال الطبقي كنسخ مشوهة من تصريحات ومشاعر معادية للمهاجرين، والتصريح التالي خير مثال عن ذلك: " لقد غيروا أحيائنا، متاجرهم وبيوتهم تثير اشمئزازنا، لم نعد نشعر بأنه مرحبٌ بنا هنا". والفرق الوحيد بين المستبدَلين والمهاجرين هو أنّ المهاجرين في العادة لا يكونون أغنياء.

حالة الاستبدال الطبقي في ضاحية ميشين - سان فرانسيسكو

تعتبر مدينة سان فرانسيسكو من أكثر الأمثلة شهرة عن الاستبدال الطبقي العمراني في الولايات المتحدة الأمريكية، بل حتى على مستوى العالم. ويعزى ذلك إلى الصيحات الجديدة في عالم التطور التقني الذي دفع بتكلفة المعيشة إلى مستويات عالية جداً، محولة بذلك أحياء الطبقة العاملة المكونة من المهاجرين الأجانب -مثل منطقة ميشين- إلى أحياء سكنية خاصة بالأغنياء وكبار رجال الأعمال الوافدين إلى المدينة.

ففي منطقة ميشين حولت متاجر البقالة والمقاهي والحانات اللاتينية إلى محلات لبيع الأنواع المترفة من المشروبات الغازية، الشوكولا العضوية، ومضخمات الصوت الراقية. أما الأسواق التجارية التي كانت اللغة المحكية فيها هي الإسبانية، تحولت إلى مقاهي يرتادها متحدثو الإنكليزية من دول مختلفة من العالم للتكلم عن أحدث تطبيقات الهواتف الخليوية وتقنيات التخزين السحابي. هذه الظاهرة أدت إلى انتشار العديد من رسوم الغرافيتي على الجدران والأرصفة بعضها ينادي بـ"الموت للحثالة الالكترونية" " وبعضها الآخر يحمّل "الخبراء التقنيين في غوغل" مسؤولية الغلاء الفاحش الذي اكتسح المنطقة.

استحوذ التحول الكبير الذي شهدته سان فرانسيسكو على الاهتمام العالمي بسبب التقرير المهم الذي كتبته ريبيكا سولنيت Rebecca Solnit ونشرته في London Review of Book حيث شرحت سولنيت في تقريرها كيف دمّر التقنييون الحيّ الذي كانت تحبه (حيّ ميشين للمهاجرين)، و وصفت الحافلات الكبيرة البيضاء التابعة لـ "غوغل" بأنّها نسخ صغيرة من نجوم الموت، والتقنيين الذين يعملون في غوغل بالـ "الأسياد الغرباء". وعلى الرغم من أنّها كانت فيما يبدو إلى جانب المهاجرين النازحين في مقالها، إلا أن اختيارها لكلمات مقالها كانت توحي بمضمونها إلى معاداة حركات الهجرة هذه وخاصة باستعمالها المتكرر لكلمة "الغرباء" الذين عوضاً عن كونهم مقيمين بشكل غير قانوني، أصبحوا الأسياد الجدد للمنطقة. على كل الأحوال كانت الرسالة واضحة : السكان المحليين يطالبون المهاجرين الوافدين الجدد بالرحيل.

من السهولة بمكان إلقاء اللوم على المهاجرين الوافدين الغرباء في ما حدث للمدينة، عوضاً عن مواجهة الحقائق المعقدة للحياة العمرانية. وقد كتب المخطط العمراني سبيرو كوستوف Spiro Kostof موضحاً أن "المدن ليست ثابتة بل هي عبارة عن مجريات تتغير دائماً مع مرور الوقت". فضاحية ميشين الحالية في سان فرانسيسكو كانت في يومٍ من الأيام أحياء تقطنها الطبقة العاملة الهولندية والألمانية. كذلك فإنّ بعض التقنيين "الغرباء" الذين غزوا المدينة الآن قادمون من دول أمريكا الوسطى والجنوبية نفسها التي أتى منها السكان الحاليون.

حالة الاستبدال الطبقي في ناطحات سحاب اسطنبول

مدينة اسطنبول، المدينة التركية التي يتجاوز عدد سكانها الـ 17 مليون شخص، والتي تخضع في الوقت الراهن إلى عمليات استبدال طبقي عمراني يمكن اعتباره أكثر تطرفاً من الذي يحدث في سان فرانسيسكو. إذ ترعى الحكومة مشاريع "التطوير والتغيير العمراني" التي أدت إلى تدمير أحياء سكنية كاملة، حيث تم جرف المنازل العشوائية لإفساح المجال لبناء مجموعات من الأبراج البراقة العالية الكثافة. أُجبر السكان على إخلاء منازلهم وفق قانون الاستملاك، وأعطوا في بعض الأحيان تعويضات مالية ضئيلة بشكل استثمارات في المشروع الجديد، وفي أحيان أخرى لم يحصلو على شيء على الإطلاق. روى الناشط العمراني يشار آداناليYaşar Adanali قصة زيارته لرجل يعتبر من آخر الناس الذين بقوا في منزلهم في منطقة طارلاباشي بالقرب من مركز المدينة. هذه المنطقة التي كانت في يوم من الأيام نابضة، مزدهرة ومفعمة بالحياة والتنوع تم إجلاء معظم الناس فيها وتوجيهها لتصبح أرضاً صالحاً لمشروع تطوير سكني جديد عصري. هذا الرجل الذي يعيش الآن بالقرب من ورشات البناء ومعداتها وموادها الثقيلة، هاجر إلى هذه المنطقة في عام 1955 قادماً من ساحل البحر الأسود القريب من الحدود الجورجية، أسعار الوحدات السكنية في ذلك الوقت كانت رخيصة بسبب وجود أعمال الشغب المناهضة لوجود اليونانيين، الذين كان هدفهم هو إجلاء السكان السابقين ودفعهم خارج المدينة. وبعد خسارتهم المعارك، فرّ اليونان من المنطقة بعد أن باعوا بيوتهم ومتاجرهم بأسعار زهيدة جداً إلى الوافدين الجدد للمدينة مما سمح لهذا الرجل وعائلته الفقيرة بامتلاك منزل.

فالاستبدال الطبقي ليس مجرد قصة بسيطة لأشخاص سيئين أخذوا مكان الأشخاص الأخيار. فالمدن تتكون عن طريق موجات نزوح مختلفة رمادية اللون أخلاقياً، تتعاقب بمرور الزمن فتكون قسريةً في بعض الحالات وهادئة مسالمة في حالات أخرى.

وقد صدر في عدد من مجلة بووم Boom ، الاكاديمية المختصصة بدراسات مدينة كاليفورنيا الأميركية، مقالة للباحثة الاجتماعية الجغرافية رايتشل براينسكي Rachel Brahinsky تشرح فيها أن "الاستبدال الطبقي هو عبارة عن تأثير الرأسمالية في الملامح والمعالم المكونة للمدينة، مما يشكل النمط العمراني الخاص باقتصادنا." استشهدت الكاتبة حالة سان فرانسيسكو كأساس في مقالها، لكن توصيفها واستنتاجاتها يمكن استعمالهما في ذات الوقت على حالة إسطنبول والعديد من المدن الأخرى التي تتغير بسبب التدفق المالي الاستثماري وتدفق المهاجرين الجدد.

ومع ذلك تختلف حالات انتشار وظهور الاستبدال الطبقي حسب المكان والزمان، ففي بعض الأحيان تكون التوجهات السياسية أكثر أهمية في هذه العملية من المال. ففي العصور السابقة، كان الاستبدال الطبقي نتيجة صريحة للفتوحات العسكرية والتغييرات في القيادات الحاكمة للبلاد. حيث تقف الطرق العريضة التي بنيت في باريس، فرنسا على عهد الامبراطور نابليون الثالث في القرن التاسع عشر كبديل للمباني "غير الصحية" في الأحياء السكنية القديمة لتشكل خير دليل على ذلك. فعندما تتنزه في هذه الطرقات العريضة المدروسة بعناية بالقرب من نهر السين في العاصمة الفرنسية، تكون شاهداً على الأنقاض المتبقية من المنازل الفقيرة المحطمة قبل عصور مضت.

الاستبدال الطبقي العمراني أمر واضح القراءة والتمييز فقط من قبل الناس الذين عرفوا المحتوى العمراني أثناء تكونه، فزائر عادي لسان فرانسيسكو ولمنطقة ميشين على الأخص، لن يتمكن من التعرف على ماهية المشكلة وآثارها. لكن أيَّ ساكن في المدينة الأصلية لعدة سنوات يستطيع بسهولة تمييز الاستبدال الطبقي الذي حصل ورؤية كافة التغييرات التي أصابت المدينة والمنطقة نتيجةً له – إنّهم ببساطة يعرفونها عندما يرونها- .

--------------------------------------------------

هذا أهم ما يتعلق بالاستبدال الطبيقي كظاهرة عمرانية وسنناقش في المقال القادم بعض المشاكل التي أفروها والحلول المقترحة

المصدر:

هنا