البيولوجيا والتطوّر > علم المورثات والوراثة
سكان التِّبِت مدينون بحياتهم لإنسان الدينيسوفان المُنقرض| مورثة
على ارتفاعِ ما يزيدُ على 4000 مترٍ، حيث الأوكسجين في أدنى مستوياته.. يعيشُ شعبٌ استحقَّ الحياة.. سكانُ التِّبِت... أعلى هضبةٍ في العالم. يكمن السرُّ في مورثة الرّياضي الخارق "Superathlete" التي أضفت على التَّبتِيين صفة الشعب الخارق! والفضلُ في ذلك يعودُ إلى إنسان الدينيسوفان! كيف انتقلت هذه المورثة إلى شعب التِّبِت لتكونَ السببَ في بقائِه على قيد الحياة؟
واجه الإنسانُ المُعاصِرُ عند هجرتِه من أفريقيا العديدَ من الظروف البيئية الجديدة كدرجاتِ الحرارة العالية والأمراضِ المختلفة والارتفاعاتِ الأكثر علواً. ومن المُرجّح أن تكونَ هذه الظروف البيئية المختلفة قد لعبت دورَ عواملَ انتقاءٍ طبيعيّ وأدّت في النهاية إلى ظهورِ التكيّفات الحالية عند البشر. وقد تساءل العلماءُ عن السرّ وراءَ تمكّن التَّبتِيين من العيشِ على ارتفاعاتٍ تتجاوز الأربعةَ آلاف مترٍ، حيث تنخفض كميّةُ الأوكسجين إلى درجةٍ كبيرةٍ يستحيلُ على معظم الناس العيش فيها.
تعودُ هذه القدرة الخارقة التي تتمتّع بها قبائل الشيربا وغيرها من سكّان مرتفعات التِّبِت ـ جنوب غرب الصين ـ إلى إحدى المورّثات التي ورثوها عن سلفٍ منقرضٍ للبشر يُعرَف باسم إنسان الدينيسوفان Denisovan والذي اكتُشف عام 2010 بعد تحليل العلماء للـ DNA من قطعة عظمٍ تعود لإصبع فتاةٍ يافعةٍ عاشت منذ ما يقارب 40000 عام عثروا عليها في كهف دينيسوفان في جبال التاي في سيبيريا وانقرض بعد تزاوجه مع أسلاف الأوروبيين والآسيويين وهذه هي المرة الأولى التي تُساهم فيها نسخةٌ من مورّثةٍ ناتجةٍ عن التهجين بين نوعين مُختلفين من البشر في تكيّف الإنسان المُعاصِر مع بيئته.
اكتشف الباحثون في عام 2010 أنَّ التِّبِتيين يحملون العديدَ من المورّثات التي تساعدهم على استهلاكٍ فعّالٍ للكميات الضئيلة من الأوكسجين، وأبرز هذه المورثات هي إحدى النسخ من مورّثة تُدعى EPAS1 والتي تُنظّم إنتاجَ الجسم من الهيموغلوبين. كانت سرعة انتشار هذه المورّثة مُفاجِئَةً للباحثين إذ يُعتقد أنّها انتشرت بين 40% من سكّان مرتفعات التِّبِت على مدى 3000 عام فقط، وبذلك يُعدُّ انتشار هذه المورّثة هو الانتشار الأسرع على الإطلاق الذي تمت ملاحظته عند البشر.
قام فريقٌ دوليٌّ من الباحثين بدراسة تتالي الأسسِ الآزوتيةِ لمورّثةِ EPAS1 عند 40 فردٍ من سكّان التِّبِت و40 آخرين من الصينيين المُنتمين لقومية الهان Han Chinese الذين يُشكلون الغالبية العظمى من سكّان الصين ـ شعبا التِّبِت والهان كانا فيما مضى شعباً واحداً قبل أن ينفصلا إلى شعبين منذ2750 إلى 5500 عامٍ ـ وبمقارنة الحمض النووي DNA عند الشعبين، وجد الباحثون أنّ جميع التِّبِتيين الأربعين واثنين فقط من بين أربعين من الصينيين الذين أُجريت عليهم الدراسةُ يمتلكون قطعةً مُميّزةً من المورّثة EPAS1 لا يمتلكها أيّ إنسانٍ آخرَ على قيد الحياة في العالم.
قام الباحثون بعد ذلك بمقارنة هذه المورثة مع تسلسلاتٍ من الـDNA تعود للبشر القدماء ومنهم النياندرتال والدينيسوفان، فوجدوا أنّ قطع المورثات العائدة للتَّبتيين وتلك العائدة للدينوسوفان متطابقةٌ إلى حدٍّ كبير. بالإضافة إلى ذلك قاموا بمقارنة كامل المورّثة EPAS1 بين شعوبٍ مختلفةٍ حول العالم وجاءت النتيجة لتؤكّدَ أنّ سكانَ التِّبِت قد ورثوا هذه المورّثة كاملةً من إنسان الدينيسوفان خلالَ ما يُقارب أربعين عاماً، أو من سلفٍ أقدمَ قد أورثها لإنسانِ الدينيسوفان والذي أورثها بدوره للإنسان المُعاصِر.
ولكن كيف ورِث التِّبِتيون هذه المورّثة من بشرٍ عاشوا قبلهم بـ 40000 عام في سيبيريا ومناطق أخرى من آسيا؟
يرى العلماء أنّ التفسيرَ الوحيدَ المعقولَ هو حدوثُ تزاوجٍ بين أسلافِ التِّبِتيين والصينيين من قوميةِ الهان مع إنسانِ الدينيسوفان، وفي حين احتفظ السكّان الذين استقرّوا في هضبة التِّبِت بهذه النسخة من المورّثة كونها ساعدتهم في التكيّف لمواجهة ظروف الحياة هناك، لم يحتفظ سوى ما يُقارب 1 إلى 2 % من صينييّ قومية الهان بها وذلك لأنّها لم تكن ذاتَ فائدةٍ بالنسبة لهم. وكان تفضيلُ الانتقاءِ الطبيعيّ لهذه المورّثة السببَ في الانتشار السّريع لها بين التِّبِتيين.
إنّ أكثرَ ما يثيرُ الانتباهَ وفق ما يرى الاختصاصي بعلم وراثة الجماعات Rasmus Nielsen من جامعة كاليفورنيا أنّ التزاوج مع مجموعاتٍ أخرى من البشر كان مصدراً هامّاً للمورّثات النافعة عبر مسيرة تطوّر الإنسان. وبالتالي فإنّ الإنسان الحديث لم يكن بحاجةٍ لانتظار حدوث طفراتٍ لكي يتأقلم مع بيئةٍ جديدة، بل كان بوسعه أن ينتقي الميّزاتِ التي حصلَ عليها عبر التهجين.
وفي النهاية قد يكون من المثير للسخرية أنّنا بدلاً من أن نردَّ الجميلَ لإنسان الدينيسوفان على منحِ سكان التِّبِت هذه المورثة الهامة التي ما كان لهم أن يستطيعوا العيش دونها، على العكس ربّما كنّا سبباً في انقراضِه!
المصدر: هنا
البحث الأصلي: هنا