البيولوجيا والتطوّر > التطور
السلوك الجنسي المثلي في الطبيعة | دراسة جديدة تقترح وجود منفعة تطورية لهذا السلوك عند ذبابة الفاكهة
يستقصى علماء البيولوجيا الجزيئيَّة والوراثة جهودهم لتفسير الظَّواهر الطبيعية المختلفة وحياكَة النظريَّات العلميَّة الكاملة الَّتي تشرح هذه الحوادث كما يُدرِكُها عقلنا البشريّ. ويبدو أنَّ داروين، عندما ألّف "أصل الأنواع" لم يؤسس فقط أضخم نظريَّةٍ معروفةٍ في تاريخ هذه العلوم حتَّى اليوم، بل فتح بذلك أيضاً أكبر المنصَّات العلميَّة بما ساعد ويساعد الباحثين على البدء بإيجاد الأجوبة التطوريَّة لمختلف ظواهر الطبيعة.
في هذا المقال سننقل لكم تجربة مجموعة من الباحثين من مركز التنوع البيولوجي في جامعة St. Andrews في اسكوتلندا، حيث أجريت مجموعة من التجارب على ذبابة الفاكهة Drosophila melanogaster في محاولة للإجابة على السؤال التطوّري التالي:
"إذا كان السّلوك الجنسيّ المثليّ غير ذي فائدة، فلمَ حافظَ الانتقاء الطبيعيُّ عليه حتَّى الآن؟"
ما يقصده علماء جامعة St. Andrews أنَّ الانتقاء الطبيعي ووفقاً لتعريفه هو أحدُ أهمِّ آليَّات التطور والَّتي تتلخَّص ببقاء السُّلالات الأكثر تلاؤماً مع البيئة المحيطة بشكلٍ طبيعيٍّ أو عفوي؛ وبالتالي لو كان السلوك المثليُّ أقلَّ تلاؤماً أو شاذّاً عن الطبيعة لكان الانتقاء الطبيعيُّ استقصاه مع مرور الزَّمن واندثر تطوريّاً إلى الأبد.
ما سبق دعا بشدّة إلى الاهتمام بمفهوم الحفاظ التطوري على السلوك الجنسي المثلي - أي بقاء الأفراد ذوي الميول المثليَّة رغم الانتقاء الطبيعي - باهتمامٍ كبير باعتباره يمثِّل مفارقةً تطوريةً كبيرةً. حيث أصرَّ العلماءُ على حتميَّة وجود منفعةٍ تطوريَّةٍ للسُّلوك الجنسيِّ المثلي. وإلَّا لكان قد اختفى بنتيجة الانتقاء الطبيعي، ولكنَّ أحداً لم يتمكَّن من إثبات وجود هذه المنفعة قبل اليوم.
وللأسف ما زال الأساس الوراثيُّ للسُّلوك الجنسيِّ المثليِّ عند الحيوانات مجهولاً إلى حدٍّ كبيرٍ على الرَّغم من كونِه أمراً جوهرياً في فهم هذا السلوك. فعندَ البحث في الدراسات السَّابقة تبيَّن أنَّ بعض الطفرات الَّتي تؤثِّر على تعرف الفرد على هويته الجنسيَّة تؤثر أيضاً على السلوك الجنسيِّ للفرد وقد أضاءَت هذه الدراسات بشكلٍ شبه كاملٍ على الآليات الوراثيَّة والعصبيَّة الَّتي تؤدي إلى التعبير عن المورِّثات المسؤولة عن السلوك المثليِّ عند ذبابة الفاكهة ولكنَّها للأسف لم تستطع الوصول إلى تفسيرٍ يوضِح ماهيَّة القوى التطوُّرية الطبيعية الَّتي حافظت على هذه السلالات وبهذه النسبة من الجماعة الكليَّة.
ثمَّ انطلق الباحثون من افتراضٍ تمَّ اقتراحه في دراسةٍ سابقة يقضي بوجود منفعة تطورية مُحتملة تتركَّز حول اثنين من الأنماط الوراثية للسلوك الجنسي المثلي: السيادة الفوقية (over dominance) والتضاد الجنسي (sexual antagonism).
حيث لاحظوا من مبدأ السيادة الفوقيَّة أنه يتمُّ الحفاظ على مورثات السلوك الجنسيِّ المثليِّ في جماعة معيَّنة في حال أدَّى وجود أحد ألِّيلي هذه المورِّثة (كل مورثة تملك أليلين / نسختين متقابلتين كل منهما على الصبغيين المتقابلين) عند الأفراد متخالفي اللواقح (heterozygote) إلى جعلهم أكثر تلاؤماً؛ ويذكر أن هذه المورّثة في حالة تماثل اللواقح (homozygote) أي وجود الأليلين تؤدي إلى السلوك المثليِّ.
أمّا التَّضادُّ الجنسيّ فيفترض أنَّ إحدى المورِّثات التي تعتبر ضارَّةً لأحد الجنسين، يُمكن لها أن تحافظ على وجودها في حال كانت نافعة عند الجنس الآخر.
ثم قام الباحثون بإجراء 2320 تجربة سلوكية تضمنَّت وضع الذباب في وعاء ومراقبة كيفية تصرُّفها تجاه بعضها البعض. حيث قاموا تحديداً بتسجيل حالات الَّلعق، الغناء وتشابك البطون (محاولات الجِماع) للذكور تجاه الإناث والذكور (حالة السلوك الجنسي المثلي)، وذلك تحت شروطٍ مختلفة من تغيُّر درجات الحرارة، درجات القرابة في التزاوج... إلخ. وعند تحليل هذا الكمِّ الكبير من البيانات، دعمت النتائج كلتا الفرضيتين سابقتي الذّكر مع انحياز لمبدأ "السيادة الفوقيّة".
ومن العوامل الَّتي استوقفت العلماء أنَّ الذكور الَّتي انحدرت من سلالات غنيَّة بذكورٍ ذوي ميولٍ جنسيَّةٍ مثليَّة، استطاعت تمرير عوامل وراثيَّة تزيد من الخصوبة إلى الإناث الناتجة بعد التزاوج. أي أنَّ المورّثات المسؤولة عن السلوك الجنسي المثلي يمكن أن يستمرَّ وجودها في مجموعة الأفراد لأنَّها تقدِّمُ فائدةً للإناث، على الرغم من كونها ضارَّة – إذا صح القول- من الناحية التكاثرية بالنسبة للذكور، وهذا ما يقصدونه بالتَّضادِّ الجنسيٍّ أو الـ Sexual Antagonism.
لكن على الرَّغم من كلِّ ما سبق، لم تنتهِ الدراسة بنتائج قطعيَّة تدعم أيَّاً من النموذجين الوراثيين سواء السيادة الفوقيَّة (over dominance) أو التَّضادِّ الجنسيِّ (sexual antagonism)، على العكس انتهت الدراسة بكشف مجموعة من العوامل والأنماط الوراثيَّة وتأثيراتها التلاؤميَّة الَّتي أدَّت إلى الحفاظ على هذا السلوك ضمن جماعة D. melanogaster بالإضافة إلى اكتشاف نمط غير متوقَّعٍ من التأثير الأبويِّ على التَّعبيرعن مورِّثات هذا السلوك.
ومن الصحيح أنَّ الفريق لم يقم بالبحث في الطبيعة المعقَّدة للمورثات التي يُعتقد أنَّها مسؤولةٌ عن هذا العامل الوراثي، لكنَّ دراستهم استطاعت اقتراح وجود آليةٍ وراثيةٍ تسمحُ بالحفاظ على القلَّة القليلة المُثابرة من مستويات السلوك الجنسي المثليِّ عند ذبابات الفاكهة الَّتي قاموا بدراستها.
كما استطاعوا أيضاً العثور على دراسةٍ واحدةٍ فقط بحثت في وجود أسباب وراثية للسلوك الجنسي المثلي عند أنواعٍ أخرى. ممَّا يُسلِّطُ الضوء على الحاجة إلى مزيدٍ من الأبحاث في مجال السلوك الجنسي المثليِّ عند الكائنات الحية الأخرى إلى جانب البشر.
المصادر: