الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة السياسية
ماذا حدث للاشتراكية بعد كارل ماركس؟
كثيرون هم الّذين يخلطون بين مصطلحيّ الماركسيّة والإشتراكيّة، فلمجرّد ذكرِ مصطلح الإشتراكيّة سرعانَ ما يتمّ ربطها ب "كارل ماركس" والحركة الماركسيّة جملةً وتفصيلاً، بنشأتِها وأبعادِها وأسسِها وأهدافِها، واعتبارهما وجهينِ لعملةٍ واحدةٍ، وكثيراً ما تمّ إثارة التّساؤلات حول الإختلافاتِ الّتي تعتري المصطلحيْن للتّمييز بينهما ، وهذا ما عمدنا على طرحِهِ في مقالاتٍ سابقةٍ. إذ أوضحنا الغموضَ الّذي يلفّ مصطلحَ الإشتراكيّةِ لكونهِ من أكثرِ المصطلحاتِ الفلسفيّة إشكاليّة ، وعرضناها بمفهوميها الطّوباويّ والعلميّ.
وبقي أن نذكّر بأهمّ الحركاتِ الإشتراكيّة الّتي نشأتْ بعيداً عن الصّرحِ الماركسيّ واتّخذّتْ اتّجاهاتٍ مختلفةٍ وأسسٍ مخالفةٍ انسجاماً مع الواقعِ الجّديد، ومن أهمّها: الإشتراكيّة الفابيّة_ الإشتراكيّة التّنقيحيّة_الإشتراكيّة الأناركيّة والإشتراكيّة الدّيمقراطيّة.
تُعدّ الفابيّة (Fabianism) إحدى أهمّ الحركات الإشتراكيّة غير الماركسيّة الّتي ظهرتْ في بريطانيا بعد عام 1889 واُشتقّ اسم الحركة تيمّناً بالجنرال الرّومانيّ "فابيوس ماكسيموس" وكان من أهمّ روّادها "جورج برنارد شو" الّذي وضع كتاب الإشتراكيّة الفابيّة 1889ويُعتبر أوّل نتاجٍ فكريّ للفابيّة.
وأهمّ النّقاط التي ميّزتْ الإشتراكية الفابيّة عن الماركسيّة بأنّها كانت تعتبر المجتمع مثلَ الكائن الحيّ الّذي يتطوّر مع مرورِ الوقتِ، في حين أنّ الماركسيّة فسّرتْ تطوّر المجتمع على أساسِ الصّراع الطّبقيّ الّذي رفضه الفابيّون لأنّهم اعتبروا أنّ التّحوّل من الرّأسماليّة للإشتراكيّة لايتمّ إلّا عبر الإقتراعِ الشّعبيّ كدليلٍ على نضوجِ وعي الجّماهير السّياسيّ وإلمامهم بحقوقهم وواجباتهم السّياسيّة، ولذلك فقد رفضوا مبدأ الثّورة الذي نادتْ به الماركسيّة، ودعوا إلى الإصلاح والتّطوّر التّدريجيّ وسعادةِ الإنسان، كما كانتْ ترى بأنّ الإشتراكيّة هي النّاتج الطّبيعي للتّطوّر الإجتماعيّ و التّقدّم الفكريّ والحضاريّ للشّعوب.
وبالإضافةِ للفابيّة ظهرتْ حركةٌ أخرى تُعتبر أكبرَ تحدٍ للماركسيّة في ذلك الوقت، دُعيتْ باسم "المفكّرين التّنقيحين" ظهرتْ في أواخرِ 1890، قام المفكّرون التنقيحيون بالتّشكيك في شرعيّة العديد من المعتقداتِ الجّوهريّة للماركسيّة ومن أهم روّادها "إدوارد برنشتاين" الّذي كان على إطّلاعٍ على المجتمعِ الفابيّ في بريطانيا، وبالرّغمِ من أنّ برنشتاين كانت له نظريّته المختلفة عن الفابيّة إلّا أنّه كان يشاركهم العديد من المعتقدات وأهمّها بأنّ الإشتراكيّة يمكن إنجازها بطرقٍ سلميّةٍ غير ثوريّة.
في سلسلةِ مقالات ظهرتْ بين عامي 1896 و 1899 وضع برنشتاين أساسَ الأفكارِ التنقيحيّة الّتي تحدّتْ الأفكارَ المقدّسة للماركسيّة وكانتْ بمثابةِ تصحيحاتٍ لبعضِ اعتقاداتِ ماركس الإقتصاديّة وخاصّة حول فكرةِ الصّراع الطّبقي ووضع العمّال المضطهدين من قبل الرّأسماليين، إذ لاحظ تحسّن في الوضعين الإقتصاديّ والسّياسيّ في ذلك الوقت، واستنتج بأنّ الصّراع الطّبقيّ قد هدأ، وبأنّ العمّال يتمتّعون بمستوى معيشيّ أعلى وأنّ الرّأسمالية ليست على وشكِ الإنهيار ولا الطّبقة الوسطى على وشكِ الإختفاء.
وبالإنتقال إلى الحركة الثّالثة نرى بأنّ الأناركيّة (Anarchism)هي إحدى أقوى الحركات الإشتراكيّة غير الماركسيّة، لم تكن الأناركيّة حركة متجانسة تماماً بسببِ اختلافِ وجهاتِ النّظر حول دورالدّولة كما تعرّضت للتّشويه والإتّهام باستخدام العنف، فغالبية الأناركيين رفضوا الثّورة ووجدوا التّعليم خير وسيلةٍ لنشرِ آرائِهم وأفكارهم وهناك فئةٌ ضئيلةٌ ممّن آمنوا بأنّ أعمالَ العنفِ تصلح سبيلاً لحفزِ الجّماهير على الثّورةِ، هذه الفئة عاشتْ ومارستْ العنف ثمّ اختفت ولم يعدْ لها وجوداً بين تيّاراتِ الأناركيّة المعاصرة، ومن أهمّ نقاطِ التّعارض بين الأناركيّة والماركسيّة تظهر من خلال التّالي:
رأى الماركسيون أنّ الدّولة هي الوسيلة الجّوهريّة لحكم المجتمع في حين رفضها الأناركيون رفضاً قاطعاً و شكّكوا في قدرةِ الدّولة على أن تؤدي دوراً إيجابياً ومن هنا جاءت صلة الوصل بين مصطلح الأناركيّة واللاسلطويّة، كما اعتقدوا بأنّ الطّبقة العاملة ستُسقِط الرّأسماليّة وذلك ليس عن طريقِ الكفاح والثّورة بل عن طريقِ تكثيف الجّهود لتنظيم جهودهم في مؤسساتٍ إجتماعيّة ومن خلالِ الإنخراط في صراعٍ اقتصاديّ ضدّ مضّطهديهم.
وأخيراً، نصل إلى الإشتراكيّة غير الماركسيّة الأخيرة الّتي ظهرتْ في نهايةِ القرن العشرين وعُرِفتْ بـ "الإشتراكيّة الدّيمقراطيّة" وهم الإشتراكيّون الّذين تأقلموا مع الحركاتِ الليبراليّة الّتي ظهرتْ في هذا القرن. تدلّ تسميتهم على التزامِهم بالدّيمقراطيّة البرلمانيّة ، وكذلك على الإلتزامِ بمبادئ السّوق الإشتراكيّة أي حقّ الحكومة أن تلعبَ دوراً في الإشرافِ على ملكيّة بعض المنشآت (مثل الخدميّة و المواصلات) لكن مع السّماح للسّوق بتحديدِ توزيع الخدمات والبضائع.
ظهرَ هذا التّحوّل النّظريّ والإقتصاديّ للإشتراكيّة في عام 1980 بعد عودة الإشتراكيين للحكمِ في عدة دول منها إسبانيا و فرنسا كما أدّى ظهور حزب العمّال في بريطانيا عام 1990 إلى تحوّل في العقيدة الإشتراكيّة بعيدًا عن أسسها الأيديولوجيّة التّاريخيّة.
المراجع:
Horowitz، Mryanne Clkine (ed.). New Dictionary of the History of Ideas. New York: Charles Scribner's Sons، 2005.