الكيمياء والصيدلة > كيمياء
الأسلحة الكيميائية وتاريخها الأسود..ماذا نعرف عنه؟
يبرس Ypres المدينةُ المنكوبةُ في الحربِ العالميةِ الأولى: تستخدمُ الغازاتُ السامّةُ بشكلٍ كبيرٍ في الحروبِ، وكانت مدينةُ يبرس Ypres المدينةَ الأكثرُ عرضةً للغازاتِ السامّةِ خلالَ الحربِ العالميةِ الأولى، وقد اُستخدمت هذهِ الغازاتُ للمرةِ الأولى فيها. بدايةً كانَ الفرنسيونَ أوّل من استخدمَ الأسلحةَ الكيميائيةَ في النزاعاتِ عندما استخدموا الغازاتِ المسيلةِ للدموعِ ضدَّ الجيشِ الألمانيِّ في شهرِ آب عام 1914، لم يتم تحديدُ العاملِ المستخدمِ بدقّةٍ، حيثُ تمَّ إطلاقُ عامليِن هما إكزيليل بروميد وأسيتيل بروموأستات(xylyl bromide and ethyl bromoacetate)، وكلاهُما سائلٌ عديمُ اللونِ، الأوّل لهُ رائحةٌ عطريّةٌ لطيفةٌ، والثاني لهُ رائحةٌ لاذعةٌ تشبهُ رائحةَ الفواكهِ.
لم تُصمَّم الغازاتُ المسيلةُ للدموعِ بهدفِ القتلِ، بل لإضعافِ قدرةِ العدوِّ، وجعلِهِ غيرُ قادرٍ على الدفاعِ عن مواقعِهِ. حيثُ تُسبّبُ هذهِ العواملُ سيلانَ الدمعِ بسببِ تخريشِ العينينِ، وتُسبّبُ تخريشاً للفمِ والحنجرةِ و الرئتينِ، كما تُسبّبُ صعوبةً في التنفسِ. التعرّضُ لتراكيزٍ أعلى من هذهِ الغازاتِ يُسبّبُ العمى المؤقت، لكن تزولُ الأعراضُ بعدَ نصفِ ساعةٍ من مغادرةِ المنطقةِ الملوثةِ بهذهِ الغازاتِ.
عملياً لم يكن استخدامُ الغازاتِ المسيلةِ للدموعِ مجدياً بشكلٍ كبيرٍ في ساحاتِ المعركةِ، لكنّهُ فسحَ المجالَ أمامَ استخدامِ غازاتٍ أخرى مؤذيةٍ بشكلٍ أكبرَ، أوّلُها كانَ غازُ الكلورِ الذي اُستخدمَ أوّلَ مرّةٍ من قِبلِ القوّاتِ الألمانيّةِ في مدينةِ يبرس Ypres في عامِ 1915. الكلورُ (Chlorine) غازٌ ثنائيُّ الذرّةِ، كثافتُهُ أعلى من كثافةِ الهواءِ بـ 2.5 مرّة، لونُهُ أخضرٌ شاحبٌ، ولهُ رائحةٌ قويّةٌ تشبهُ رائحةَ المبيّضاتِ، وصفَها الجنودُ بأنّها تشبهُ رائحةَ مزيجٍ من الأناناسِ والفلفلِ. يتفاعلُ غازُ الكلورِ مع الماءِ في الرئتينِ ليشكّلَ حمضَ كلورِ الماءِ HCl الذي يؤدّي إلى الموتِ السريعِ. بتراكيزَ أقلَّ يسبّبُ غازُ الكلورِ السّعالَ والإقياءَ وتخريشَ العينينِ.
عندما اُستخدمَ غازُ الكلورِ للمرّةِ الأولى كانَ لهُ تأثيراتٌ قاتلةٌ، لم يكن الجنودُ الذينَ اُستخدمَ ضدَّهُمُ مجهّزينَ بأقنعةٍ واقيةٍ منَ الغازاتِ السامّةِ، فأدّى إلى موتِ أكثرِ من 1100 شخصٍ عند استخدامِهِ للمرةِ الأولى في مدينةِ يبرس. لم تكن القواتُ الألمانيّةِ الّتي استخدمت هذا الغازَ جاهزةً تماماً لمدى فعاليتِهِ، فتأخّر تقدّمُهم في الثغراتِ التي فُتحت في صفوفِ العدوِّ وبالتالي لم يكسبوا الكثيرَ منَ المناطقِ في أرضِ العدوِّ.
كانت فعاليّةُ غازُ الكلورِ قصيرةَ الأمدِ، فمظهرُهُ ولونُهُ الواضحُ جدّاً ورائحتُهُ القويّةُ جعلت من السهلِ جدّاً ملاحظتَهُ، ولأنّه ينحلُّ في الماءِ كانَ بإمكانِ الجنودِ الذين لا يملكونَ أقنعةً واقيةً للغازِ تجنّبُهُ بوضعِ قطٍ قماشيةٍ مبلّلةً بالماءِ على الفمِ والأنفِ. بالإضافةِ إلى أنّ آليةَ إطلاقِهِ سببّت عدّةَ مشاكلَ عندما حاولَ البريطانيونَ استخدامَهُ في مدينةِ لوس Loos الفرنسيةِ، فقد سببّتِ الرياحُ تغييرَ اتجاهَ الغازِ الّذي تمّ إطلاقُهُ، وانتشرَ بينَ صفوفِ الجيشِ البريطانيِّ بدلاً من العدوِّ الفرنسيِّ مُوقِعاً العديدَ من الإصاباتِ.
كان الفوسجين (Phosgene) العاملَ التاليَ المستخدمَ، ومرّةً أخرى في مدينة يبرس من قِبلِ القوّاتِ الألمانيةِ في عامِ 1915، مع أنّ بعضَ المصادرِ التاريخيةِ أشارت إلى أنّ الفرنسيينَ هم أوّلُ من استخدمَهُ. والفوسجين غازٌ عديمُ اللونِ، لهُ رائحةٌ تشبهُ رائحةَ القشِّ المتعفّنِ، ولتكونَ هذهِ الرائحةُ واضحةً يجبُ أن يكونَ تركيزُه 0.4 ppm، وهذا أكبرُ بعدّةِ مراتٍ من التركيزِ الذي يسبّبُ تأثراتٍ مؤذيةً للصحةِ. وهو غازٌ شديدُ السميّةِ نظراً لقابليتِهِ للارتباطِ بالبروتيناتِ في الأسناخِ الرئويةِ ويخرّبُ الحاجزَ الهوائيَّ الدمويَّ مسبّباً الاختناقَ.
كان غازُ الفوسجين فعالاً وقاتلاً أكثرَ من غازِ الكلورِ، فالأعراضُ قد تستغرقُ 48 ساعةً حتى تظهرَ. أمّا تأثيراتُهُ المباشرةُ فهي السعالُ وتخريشُ العينينِ والطرقِ التنفسيةِ، وبالتالي يسبّبُ تجمّعَ السوائلَ في الرئتينِ ويؤدّي إلى الموتِ. 85% من مجموعِ حالاتِ الوفياتِ في الحربِ العالميةِ الأولى والتي بلغت 91،000، كانت بسبب استخدامِ غازِ الفوسجين (أو عاملٍ آخرَ هو دي فوسجين Diphosgene). ومنَ الصعبِ تحديدُ الرقمِ بدقّةٍ لأنّ هذا الفوسجين كان يستخدمُ بالمشاركةِ مع غازِ الكلورِ ومع دي فوسجين.
أصبحت المشاركةُ بين الغازاتِ السامّةِ في النزاعاتِ أكثرَ شيوعاً مع استمرارِ الحربِ، كاستخدامِ الكلوربيكرين ((chloropicrin بسببِ تأثيراتِهِ المخرّشةِ وقدرتِهِ على اختراقِ الأقنعةِ الواقيةِ من الغازاتِ، مسبباً العطاسَ ممّا يجبرُ الجنودَ على نزعِ أقنعتِهم الواقيةِ وهذا يعرّضُهم للغازاتِ الأخرى المستخدمةِ.
أكثرُ الغازاتِ المستخدمةُ في النزاعاتِ مع غازِ الكلورِ هو غازُ الخردل (mustard gas). الخردلُ الكبريتيُّ ((Sulfur mustards هو صفٌّ من الغازاتِ يحتوى العديدَ من المركّباتِ التي تكونُ في حالتِها النقيّةِ عبارةً عن سوائلَ عديمةَ اللونِ، أمّا في حالتِها المشوبةُ والتي تستخدمُ في الحروبِ تكونُ غازاتٌ بلونِ أصفرَ إلى بنيٍّ، ورائحةٌ تشبِهُ رائحةَ الثومِ أو الفجلِ الحارِ. الخردلُ غازٌ مخرّشٌ ولهُ تأثيراتٌ منفّطةٌ، أي يسبّبُ حروقاً كيميائيةً عندَ ملامستِهِ للبشرةِ مؤدّياً إلى تقرّحاتٍ كبيرةٍ تحوي سائلاً أصفرَ اللونِ. لا يسبّبُ التعرّض للخردلِ في البداية أيّة أعراضٍ لكن مع مرورِ الوقتِ يبدأ تخريشُ البشرةِ، وهنا يكونُ قد فاتَ الأوانُ على إتخاذِ إجراءاتِ الحمايةِ منَ الغازِ.
للخردلِ تأثيراتٌ مُضعفةٌ للعدوِّ، ونسبةُ الوفيّاتِ الناتجةِ عن استخدامِهِ كانت 2% من مجملِ الوفيّاتِ التي حصلت في الحربِ العالميةِ الأولى، لكنّ الجنودّ الذينَ تعرّضوا لهُ وأصيبوا بحروقٍ كيميائيةٍ وتقرّحاتٍ جلديّةٍ لم يستطيعوا العودة إلى خطّ المواجهةِ مرّةً أخرى، وكانوا يحتاجونَ عنايةً خاصّةً فائقةً، والذين شُفوا من تأثيراتِ هذا الغازِ كانوا معرّضينَ للإصابةِ بالسرطانِ خلالَ حياتِهم بسببِ التأثيراتِ المسرطنةِ للخردلِ.
برَغمِ التأثيراتِ الفيزيولوجيةِ الهائلةِ للغازاتِ السامّةِ، كانت نسبةُ الوفياتِ التي سبّبتها 1% من مجملِ الوفيّاتِ التي حدثت في الحربِ العالميةِ الأولى، لكن كان الخوفُ من استخدامها في الحرب العالمية الثانية، فأُطلقت فقط في بعضِ الحالاتِ. لاحقاً مُنعَ استخدامُ الغازاتِ الكيميائيةِ في الحروبِ وفقاً لمعاهدةِ جنيف في 1925، والتي وقّعَ عليها غالبيةُ الدّولِ التي دخلت في الحربِ العالميةِ الأولى.
لكن مازالَ هناك استخداماتٌ لهذهِ الموادِ الكيميائيةِ مثل الفوسجين الذي يعتبرُ عاملاً هاماً في الصناعةِ، حيثُ يُستخدمُ في اصطناعِ بعضِ المركباتِ الدوائيةِ والعضويةِ الهامةِ.
المصدر: