البيولوجيا والتطوّر > الأحياء الدقيقة
المكدوس؛ طبقٌ شعبيٌّ... واللّمسة بكتيرية!
إن كنت تعرف (المكدوس) يمكنك تجاوز هذه الفقرة، ولمن لا يعرفه؛ إليك توصيف مُقتضب..
المكدوس: هو صنف من الطعام يُتناول في وجبة الإفطار أو إلى جانب الأطباق الرئيسة، ويُصنع منزليًّا عن طريق سلق ثمار الباذنجان (الاسم العلمي Solanum melongena) بالماء الساخن، ثم غسلها وشقها طوليًّا وحشوها بالقليل من الملح، وبعد ذلك تُكبس بوضع ثقلٍ عليها (يجب ألا تقل مدة الكبس عن 21 ساعة) بهدف التخلص من الماء الزائد، ثمَّ تُحشى بالجوز والفليفلة الحارة المفرومَين والثوم المهروس ورصِّ الثمار-تكديسها- على نحوٍ منتظم في مرطبانات، ثم يُضاف زيت الزيتون ويُترك ثلاثة أيام قبل أن يُحكم إغلاقها تجنُّبَ فورانه.
إن لم يُسعفك خيالك في تصور الشكل النهائي الناتج لما قرأته؛ فها هو ذا:
يُشتَهر المكدوس في بلاد الشام، ولكن له أشباه في أنحاء العالم دُرِست على نحوٍ أفضل ومنها ألماغرو Almagro الإسباني؛ يُنتج ألماغرو في منطقة لامنشا La Mancha الإسبانية عن طريق تخليل الباذنجان الصغير الحجم في خليط من الخل والفلفل الأحمر (مسحوق الفليفلة) وزيت الزيتون ويُحشى بالفليفلة أيضًا، ويُعدُّ ألماغزو المقابلَ الإسباني للمكدوس؛ ويعود السبب إلى تشبيهنا إياه بالمكدوس ليس فقط تشابُه المكونات؛ بل تماثل نوع البكتريا المعزولة من المنتجَين كلاهما والتي سنأتي على ذكرها.
وهذه صورة ألماغرو:
يعلم معظمنا أنَّ للمكدوس باذنجانًا خاصًّا (الصنف المُفضَّل في سورية هو الحِمصي)، أما في إسبانيا فيقابل "الحمصي" السوري باذنجانُ منطقة Campo de Calatrava؛ وهو الصنف الوحيد المُعترف به رسميًّا في أوروبا، ثم إنه يُعدُّ سِمةً خاصة لتلك المنطقة الجغرافية منذ العام 1994؛ إذ ينتقي المزارعون سلالات محلية مُخصَّصة للمكدوس ويحافظون عليها، وقد وجدت الدراسات احتواءه على نسبة فينولات نشطة عالية مقارنة بغيره من الباذنجان.
بعد أن تعرفنا إلى المكدوس؛ يبقى أن نعرف كيف يصبح الباذنجان مكدوسًا، ولكننا بحاجةٍ -قبل الخوض في ذلك- إلى معرفة بعض الأساسيات عن البكتريا والتخمُّر:
• التخمُّر: هو العملية التي تُحوَّل فيها الكربوهيدرات إلى حمض أو كحول في الظروف اللاهوائية، وتُؤدِّيها الخمائر وبعض أنواع البكتريا عند توافر شروط مُعيَّنة كالحرارة ودرجة الحموضة المُناسبَتين. يُنظر إلى التخمر اللبني (عملية تنجزها البكتريا غالبًا وينتج عنه حمض اللبن) على أنه وسيلة للحفاظ على الأغذية؛ إذ تمنع الحموضةُ الناتجةُ عملياتِ التحلُّل غير المرغوب فيها.
• درجة الحموضة المثلى لنمو البكتريا هي بين 6.6 و7.5، ولا يُمكنها العيش في درجة حموضة دون 4.5؛ إذ تصبح هذه الدرجة ملائمةً لنمو أنواعٍ أخرى من الأحياء الدقيقة (يُعدُّ رقم الحموضة 7 معتدلًا، وتزداد الحموضة كلما قلَّت القيمة).
• تألَف معظمُ البكتريا الحرارةَ المعتدلة؛ أي إنها تُفضِّل درجات حرارة بين 30-37°C.
والآن بعد أن وضعت بحسبانك الأمور السابقة؛ تابع ما يحدث..
يتخلَّل الباذنجان بعمليةً تلقائيةً تحدث بفعل الكائنات الدقيقة المحمولة على المواد الأولية للتخليل (وهي هنا مكونات المكدوس)، إضافة إلى تلك الموجودة في البيئة في أثناء التحضير. وتتكاثر أعداد البكتريا المُسبِّبة للتخمر كثيرًا لتوافر الشروط المناسبة لها (والتي ذُكِرت في الفقرة السابقة)؛ إذ تستهلك السكريات منتجةً الأحماض؛ الأمر الذي يزيد الحموضة pH إلى قيمة تتراوح بين 3.8 و4 في الأيام السبعة الأولى، ولكن من هذه البكتريا؟ ولمَ هي دون غيرها؟
دعونا ننتقل من المطبخ إلى المخبر كي نرى ما فعله ذوو المعاطف البيضاء..
في بحث سوريٍّ – ألمانيٍّ مشترك؛ عـُزلت بكتريا حمض اللبن الموجودة في مخللات المطبخ السوري لتحديدها وتصنيفها، وشملت الدراسة الكشك Kishk والشنكليش Shanklish وجبنة القشقوان Kashkawan وقمر الدين QamerEldeen والمكدوس Makdous، وأظهرت النتائج وجودَ بكتريا مشتركة بين معظم الأطعمة وأخرى خاصة ببعضها دون سواها.
لمعرفة المزيد عن المخللات يُمكنك قراءة المقال: هنا
تتبع الأنواع البكتيرية التي عُزلت من المكدوس إلى جنس العصيات اللبنية Lactobacillus؛ وهي:
L. plantarum، L. brevis، L. paraplantarum، L. fermentum؛ ولكن كان النوع L. plantarum الأكثرَ تعدادًا في المكدوس وفي المخللات النباتية عمومًا كالزيتون؛ الأمر الذي يُؤدي أيضًا إلى سيادة هذا النوع على الأنواع الأخرى في التركيبة البكتيرية لمعي الأشخاص الذين يتناولونها باستمرار.
وعلى الرغم من أنَّ البكتريا التي عُزلت محدودةٌ وغيرُ متنوعة وينتمي معظمها إلى جنس العصيات اللبنية Lactobacillus بنسبة 90%؛ ولكن ثبت وجود الخمائر yeast أيضًا.
ما خصائص هذه البكتريا Lactobacillus plantarum المُسبِّبة لتخمر الباذنجان؟
• هي بكتريا موجبة غرام عصوية الشكل، توجد على نحو طبيعي في الجهاز الهضمي للإنسان والثدييات الأخرى، وفي اللعاب وفي منتجاتٍ غذائيةٍ متنوعةٍ كالألبان والأجبان والمخلَّلات.
• تستطيع النموَّ بدرجات حرارة تتراوح بين 15–45°C، وبدرجات حموضة عالية تصل إلى pH=3.2.
• وإضافة إلى الحموضة فهي تتحمَّل الملوحة أيضًا؛ ما يسمح لها بالبقاء في أثناء مرورها في جهاز الإنسان الهضمي وكذلك في الباذنجان المُملح الذي سبق سلقُه.
• غير هوائية اختيارية؛ بمعنى قدرتها على النمو بوجود الأوكسجين أو عدمه (نعلم أنه في أثناء رصِّ المكدوس تكون التهوية منخفضة).
صورة بالمجهر الإلكتروني لبكتريا Lactobacillus plantarum:
وعلى ضوء ما سبق يُمكن الإجابة على سؤالٍ لربما قد راود معظمنا، ألا وهو: لمَ تتواجد بكتريا L. plantarum دون سواها في المكدوس؟
قد يكون سبب إيجادنا لـ L. plantarum في المنتج النهائي عائداً لمقاومتها للحموضة وغياب البكتريا الأخرى مثل Leuconostoc لكون إعداد المكدوس يتم في وقت حار من السنة لا يناسب هذه الأخيرة.
في الواقع يعد المكدوس مخلّلاً استثنائياً من ناحية عدم تنوع الأجناس المساهمة في تخليله على عكس الزيتون والخيار وباقي الخضراوات التي تتخمر بفعل الـ Leuconostoc و الـ Pediococcus إضافةً إلى الـ Lactobacillus.
وهنا يمكن الإجابة عن سؤال ربما قد راود معظمنا؛ ألا وهو: لمَ توجد بكتريا L. plantarum دون سواها في المكدوس؟
قد يكون سبب إيجادنا لـ L. plantarum في المنتج النهائي عائدًا إلى مقاومتها الحموضة وغياب البكتريا الأخرى مثل Leuconostoc؛ إذ تُجرى عملية إعداد المكدوس في وقت حار من السنة لا يُناسب هذه الأخيرة.
في الواقع فإنَّ المكدوس مخلَّلٌ استثنائيٌّ من ناحية عدم تنوع الأجناس المساهمة في تخليله، وهو على عكس الزيتون والخيار وباقي الخضراوات التي تتخمَّر بفعل الـ Leuconostoc والـ Pediococcus إضافة إلى الـ Lactobacillus.
بعد أن تعرفنا إلى عملية "التمكدُس" إن جاز التعبير، بقي أن نعرف سبب اختلاف طعمه من سنةٍ إلى أخرى ومن بيت إلى آخر:
• يُؤدِّي التخمر الذي يُجرى منزليـًّا باستخدام تقنيات تقليدية إلى الحصول على منتجات مُتفاوتة في الجودة؛ إذ تُؤثِّر العديد من العوامل في تركيب الأحياء الدقيقة النامية وتتحكَّم في تتابع الأنواع المختلفة؛ الأمر الذي يُؤثِّر كثيرًا في نوعية المُنتج.
• من الأمور التي تُساهم أيضًا في اختلاف الطعم حقيقةً هو أنَّ النكهة التي تُضفيها بكتريا L. plantarum ترتبط بتوازن الأحماض العضوية؛ الأستات (الخلات) acetate المُتطايرة واللاكتات lactate غير المتطايرة، إذ يزداد إنتاج حمض الخل acetic acid بتوافر الأوكسجين.
• يُؤثِّر في المكدوس أيضًا ما يُؤثِّر في نمو البكتريا ونشاطها، وخاصة درجة الملوحة؛ إذ وُجِد أنَّ هناك تأثير ملحوظ في تركيز المحلول الملحي في أعداد البكتريا النامية وأنواعها؛ إذ يُبطئ التمليحُ الشديدُ العمليةَ أكثر من 20 يومًا، وتُؤدِّي قلَّة الملح من ناحية أخرى إلى نمو بكتريا أخرى غير مرغوبة وعدم حدوث التخمر اللبني.
من الجدير بالذكر أنَّ مصانع الأغذية تُضيف بادئات بكتيرية من شأنها تسريع عملية التخمر وتحسينها وتجنُّب المشكلات المرتبطة بحدوث تخمراتٍ غير مرغوبة؛ كاختلاف جودة المُنتَج وطعمه، إضافة إلى كونها تسمح بحدوث التخمر في الأوساط ذات الحموضة المنخفضة أو المحتوى المنخفض من الملح.
أخيرًا؛ لا بُدَّ من الإشارة إلى أنَّ بكتريا حمض اللبن مفيدةٌ لجسم المضيف الذي تعيش داخلَه، ويتأثر وجودُها بمقدار ما يتناوله المرءُ من الأغذية المُتخمرة أو المُتممات الغذائية الحيوية Probiotics المؤلفة من البكتريا المفيدة والخمائر.
تتوافر بكتريا Lactobacillus plantarum مع غيرها من المُتمِّمات الغذائية الحيوية ــذات الفوائد التي يضيق المجال لحصرهاــ في متاجر الأغذية الصحية وعبر الويب، وبالطبع في حبة المكدوس التي تناولتها قبل أن تبدأ قراءة هذا المقال.
إذن؛ عليك تناول الأغذية المُتخمِّرة الغنية بالأحياء الدقيقة المفيدة ومنتجاتها، وإن كانت الصورة السوداء لهذه الكائنات المجهرية لا تزال مطبوعةً في مخيلتك؛ ففكِّر بالأمر ثانيةً واجعلها رفيقًا لك في نظامك الغذائي؛ لأنها لن تخذلك أبدًا.
المصادر:
1- هنا
2- هنا
3- Albesharat R.، Ehrmann M. A.، Korakli M.، Yazaji S. and Vogel R. F. (2011). Phenotypic and genotypic analyses of lactic acid bacteria in local fermented food، breast milk and faeces of mothers and their babies. Syst Appl Microbiol، 34(2): 148-155. هنا
4- Abriouel H.، Omar N.، Pulido R.، López R.، Ortega E.، Cañamero M. and Gálvez A. (2008). Vegetable Fermentations. In: Cocolin L. and Ercolini D. (ed). Molecular Techniques in the Microbial Ecology of Fermented Foods. Springer New York، pp. 145-161. Food Microbiology and Food Safety. هنا
5- Seseña S. and Palop M. L. (2007). An ecological study of lactic acid bacteria from Almagro eggplant fermentation brines. Journal of Applied Microbiology، 103(5): 1553-1561. هنا
6- Sesena S.، Sanchez I. and Palop L. (2004). Genetic diversity (RAPD-PCR) of lactobacilli isolated from "Almagro" eggplant fermentations from two seasons. FEMS Microbiol Lett، 238(1): 159-165. هنا
7- Prohens J.، Muñoz-Falcón J. E.، Rodríguez-Burruezo A.، Ribas F.، Castro Á. and Nuez F. (2009). ‘H15’، an Almagro-type Pickling Eggplant with High Yield and Reduced Prickliness. HortScience، 44(7): 2017-2019. هنا
8- Hurtado M.، Vilanova S.، Plazas M.، Gramazio P.، Andújar I.، Herraiz F. J.، Castro A. and Prohens J. (2014). Enhancing conservation and use of local vegetable landraces: the Almagro eggplant (Solanummelongena L.) case study. Genetic resources and crop evolution، 61(4): 787-795. هنا
9- Erickson L. E.، Fayet E.، Kakumanu B. K. and Davis L. C. (2014). Lactic Acid Fermentation. In: (ed). Carcass Disposal: A Comprehensive Review. هنا
10- هنا
11- بسيس صفاء. (2014). الدليل العملي في التنوع الغذائي المنزلي. دولة فلسطين – وزارة الزراعة، المشروع الإقليمي الزراعي الدنماركي. هنا