التاريخ وعلم الآثار > تاريخ العلوم والاختراعات

عبقرية الحضارة البشرية تتلخص في اختراعاتٍ عشر ... المكتبات

يتبادر للأذهان شعور الملل عندما يكون محور الحديث عن المكتبات، و لكن في الحقيقة إنّها المكان المثير الذي تلتقي فيه الثقافات بكل الأزمان و هي الخندق الذي يجمع المفكرين من كافة المجالات الفكرية والعلمية.

و تأثيرها الحالي يحمل أثرًا كبيراً على واقعنا فكيف كانت بدايتها؟

أثرت المكتبات على مر التاريخ تأثيراً كبيراً على المجتمعات البشرية كونها مخازن فكرية ومراجع تاريخية ترسم لوحاتٍ واضحةً عن أزمان بعيدة وأفكار من الأقاصي. فقد أدرك الإنسان منذ البدء أن ما يصنعه يستحق الحفظ وقد كان هذا الحفظ هو أحد أول أشكال المكتبات، وقد كان أقدم ما اكتشفه المنقبون منها هو مكتبات في مصر.

كان هذا الاستنتاج مبنيّا على ما جمعه المفكرون والعلماء الذين سبقوا المنقبين فاستدلوا على وجود وثائق تمّ

حفظها. وفي مقال (المكتبة في مصر القديمة) وصف البروفيسور الدكتور عبد الحليم نور الدين هذه الأماكن قائلًا: أنها لا يمكن إلا أن تسمى مكتبات لامتلاكها لخصائص كالتصنيف والتقديم ووجود قائمين عليها كأمناء مكتبات وما شابه كما هي عليه المكتبات اليوم.

ولكن بالطبع ولكي يكون لديك مكتبة فعليك أن تملأها بشيء ما، وقد كان هذا ألواح طينية وأوراق بردى. و نوّه الدكتور نور الدين بأن الباحثين قد اكتشفوا بأن هذه الألواح كانت هي الأكثر شيوعا، حيث كان يحفر المطلوب عليها وهي رطبة ثم تترك لتجف، ليتم اكتشافها من قبل المنقبين بعد آلاف السنين.

كان الاستخدام الأول للألواح سابقة الذكر قبل قرابة خمسة آلاف عام، لتاريخ يعود حتى الألف الثالث قبل الميلاد لتوثيق الأمور الدينية والتاريخية وغيرها من الأمور المهمة. ولكن استخدامها أصبح أقل شيوعا مع تقدم الوقت سامحةً لأوراق البردى بأن تأخذ مكانها، حتى أصبحت تلك هي الوسيلة الوحيدة للتوثيق فيما يشبه استخدام الأوراق في يومنا هذا. بل وقد كان هذا الاستخدام هو المبدأ وراء استهلاكنا للأشجار كمصدر لصناعة الورق.

و مع تحول الكتابة للشكل الأوحد لتوثيق الشعوب لأفكارها، كان لهذه الوثائق أن تكثر فوجب تخزينها مما استدعى تنظيمها وتصنيفها لتسهيل الوصول إليها. أظهرت الأبحاث أن أقدم نظامٍ للتصنيف كان في نينوى يعود للعام 700 ق.م. ولكننا لم نكتشفها إلا لبعد آلاف السنين وتحديدًا في العام 1850، وذلك عندما اكتشف عمال السير أوستون هنري لايارد ألواح في نينوى في أطلال قصر آشور بانيبال وقد سقطت عن رفوفها. كان المثير للاهتمام في الأمر أن الألواح كانت تحمل ترتيبًا معينًا مما أدى للاعتقاد بأن أهل نينوى كانوا يملكون مكتبتهم الخاصة. أغلب الظن أنها تدين بوجودها لآشور بانيبال نفسه. تم بعد ذلك اكتشاف أكثر من ثلاثين ألف لوح من آثار نينوى لتشكل مجموعة تدعى مكتبة آشور بانيبال الملكية والتي توجد اليوم في المتحف البريطاني. وتظهر هذه المجموعة أعمال بلاد ما بين النهرين وكيف كانت منظمة كلها في نظام معين.

كان مذهلاً ما آلت عليه المكتبات القديمة، إلا أن ما فعلته المكتبات الكلاسيكية عند الإغريق والرومان كان تحسينًا ملحوظًا لها.

كانت المكتبات الخاصة عند الإغريق حوالي القرن الخامس قبل الميلاد مصنفة إلى صنفين: روائي وغير روائي، على عكس التصنيفين السابقين عند الشعوب السابقة لمجتمعي ومؤسسي. وقد كانت أعمال شعراء كيوريبيديس والفلاسفة كأرسطو من الأعمال التي حظيت بالاهتمام في بيوت الإغريق، كمثالين على ما كان لهذه المكتبات أن تحتويه.

لطالما كان للثقافة الإغريقية من تأثير عميق على نظيرتها الرومانية، فكان لابد للأعمال اليونانية أن تصل إلى بيوت المواطنين الرومان. في ورقتها البحثية المعنونة بالمكتبات القديمة لليونان وروما، تقول خبيرة المكتبات في جامعة كورنيل جاكلين سبون:" أن حيازة الكتب كان ذا أهمية كبيرة عند الرومان بدليل ظهورها في اللوحات الأسرية التي كان يعرضها الناس في بيوتهم". وقد ظهر اهتمام الرومان بالكتب في خلقهم لما يمكن وصفه بالمكتبات العامة، وقد كان يوليوس سيزر ينوي إنشاء مكتبة عامة لروما قبل أن يتم اغتياله بالطبع.

مع مرور الزمن انتقلت المكتبات من استخدام الطوامير إلى استخدام الأسفار التي كانت أنسب وأفضل للاستخدام. وقد تمّ تطوير نظام السفر في القرن الأول للميلاد من ألواح الكتابة الخشبية، وتميز عن نظام الكتابة على الطومار بكونه أكثر ارتصاصاً وأسهل للاستخدام عند الإحالة. عند حوالي عام 300 للميلاد كانت الأسفار بشيوع الطوامير بل و اكثر.

و بتتالي السنين أصبحت المكتبات أكثر رواجًا وكان لها حضورها الأبرز في البلاد التي حكمها الإسلام كبلاد الشام وبلاد ما بين النهرين وشمال أفريقيا وصقلية واسبانيا وذلك في القرنين الثامن والتاسع للميلاد. وقد كانت المكتبة الأولى في الحضارة الإسلامية هي المسجد، حيث كان كتابها الأول هو القرآن. ومع الوقت أدرك المسلمون أهمية الانتقال من الكلمة المنطوقة للكلمة المكتوبة.

طوّر المسلمون نظام المكتبات واتبعوا الكتابة على الأسفار وأنشأوا مكتبات ضخمة كانت أكبرها "الصوفية" وهي أقدم مكتبة مسجد، وقد كانت في حلب واحتوت على عشرة آلاف مجلد.

تعلم العرب بعدها صناعة الورق من الصينيين وتم إنشاء أول مشغل ورق في بغداد. لتصبح المكتبات مصدراً يتباهى به حكام المسلمين، فأصبحت المكتبة بناء جميلًا يضم معه حدائق تحيط به وبحرات ونوافير بل وأماكن للجلوس والقراءة وغرف للمترجمين. أما الكتبة فينقلون من الفارسية واليونانية والرومانية والسنسكريتية وغيرها من أمهات الكتب. للآسف كان مصير العديد من تلك المكتبات الدمار على يد المغول، كما كان مصير المكتبات الرومانية اضمحلالها نتيجة نقص موارد الدولة.

إنّ أُفول تلك المكتبات أرفقه ظهور مكتبات الأديرة في وما رافق ذلك من جهود ضخمة كانت تُبذل على يد الرهبان. مما جعل إعارة الكتب أمراً غير محبذ ما لم يحصل الدير على وديعة من المال مقابل ذلك. ولكن ومع الوقت أصبحت إعارة الكتب أكثر شيوعاً إذ أدرك أصحابها أن إعارتها يعني احتمالية نسخها نسخًا أخرى.. كما كان لهذه المكتبات دورها في عالم الطباعة والنشر.

حوالي القرن الخامس عشر بدأت العلاقة بين المكتبة والأكاديميات حيث توجّه المفكرون والعلماء نحو المكتبات فأصبحت تلك تحوي لوناً جديداً غير ما كان فيها من تاريخ أو كتب دينية. كانت مكتبات الجامعات في أوروبا وثيقة الاتصال بمكتبات الأديرة التي كانت الأكثر شيوعا بين القرنين الثاني عشر والخامس عشر للميلاد، وكان التشابه بينهما أيضا في التحفظ على إعارة الكتب وفي جعلها متوفرةً للمقيمين فيها حصراً. ولكن ومع الوقت أصبحت المكتبة وحدة منفصلة في البناء تابعة مع ذلك للكلية التي تنتمي إليها، وبدأت جامعات كأوكسفورد لجمع المال بهدف زيادة حجم مكتبتها. وأفعال كهذه بدأت ما عرف لاحقاً بالعصر الذهبي للمكتبات.

بدأ الاهتمام بالمكتبات يزداد بشكل ملحوظ بين عامي 1600 و1700 م، لسببين هما: زيادة كميات الكتب المتوفرة وانخفاض أسعارها عن ذي قبل. بالإضافة لظهور اهتمام جديد بالكتب الكلاسيكية. فتمّ بناء مكتبات مهمة لحفظ هذه الأعمال كمكتبة بودليان في أوكسفورد ومكتبة مازارين في باريس ومكتبة المتحف البريطاني والمكتبة الوطنية المركزية في إيطاليا.

تابعت المكتبات تطورها بمرور الزمن و يجدر بنا بهذا الصدد أن نذكر إصدار انكلترا عام 1850 قانوناً يقضي بإلزام معظم المدن بدفع ضرائب للمساهمة في بناء المكتبات العامة، فساعدت أعمال كهذه على رفع درجة التعلم في المجتمع. كما كان للولايات المتحدة الأميريكية دوراً هاماً في تطوير المكتبات.

دخلت المكتبات بعدها عصرنا الحالي فأصبح التصنيف آليّاً باستخدام التكنولوجيا المتطورة، كما تزايد عدد المكتبات العامة منها والخاصة حول العالم. و بالرغم أن الكثير منها تعرض لبعض الأخطار نتيجة الأزمات المالية والحروب، إلا أن الأمل باقٍ في أن المكتبة كانت وستبقى أحد أعمدة نشر العلم وتطوير المجتمع.

المصدر : هنا