الطبيعة والعلوم البيئية > عجائب الأحياء
الأنقليس سمكة الصعق الكهربائي - استراتيجية السمكة في اصطياد فرائسِـها
كثيرةٌ هي الدراساتُ التي أُجْرِيَتْ على سمكةِ الأنقليس، وقليلةٌ هي النتائجُ التي توصَّلَ إليها العلمُ لكنّ "البطَّارِيّة"؛ أحدِ أهمِّ الاختراعاتِ التي غيَّرت مجرى التاريخ إنما تعود بالفضل إلى دراسةِ هذا الكائنِ العجيبِ، فَبعدَ أن درسَ العالمُ الإيطاليُّ ألِساندرو فولتا (Alessandro Volta) بناءَ عضلاتِ هذه السمكةِ الكهربائيةِ ولاحظَ أنها مكوّنةٌ من عدَّةِ طبقاتٍ كثيفة، اِسْتَقَى فكرةَ البطاريةِ عن طريقِ بناءِ طبقاتٍ من مَعْدِنِ النحاسِ والزنك؛ حيثُ لاحظَ أنَّ لها قدرةٌ عاليةٌ على تخزينِ الطاقةِ الكهربائيةِ بداخِلِها [1]. وهكذا بدأتْ الطاقةُ المــتـــنــــقــّـلة؛ "البطارية" من غزوِ حياتِنا اليوميةِ في شتى المجالاتِ والأصعدة. فـمن دونها لتحوّلت هواتفنا الذكية إلى حجارةٍ غيرِ ذاتِ مَنْفَعة، ولولاها لآلت جميع السياراتِ إلى آلاتٍ عتيقةٍ لا يمكنُ تشغيلُها، ولتوقف جهازُ تنظيمِ ضرباتِ القلبِ عن العملِ مُعلناً وفاةِ مُقْتَنِيِه، والقائمة تطول.
صورة 1
كيف تُنتج هذه السمكةُ الكهرباء؟!
بادِئَ ذِي بِدْئ لابدَّ أنْ نَعْلَمَ أنَّ جميعَ الخلايا الحيةِ تنتجُ شحناتٍ كهربائيةٍ حولَها [3]؛ و ذلك يعودُ لِكونِ الخليةِ الحيةِ تقومُ بترشيحِ بعضِ العناصرِ المعدنيةِ المتأينةِ (ذاتِ الشحناتِ الموجبة) من خلالِ غشاءِها الخارجي، كـأيونات الصوديوم والبوتاسيوم والكالسيوم، مِمَّا يجعلُ المحيطَ الخارجيَّ للخليةِ موجبَ الشحنةِ مقارنةً بداخلِها (صورة 2). و هذا الفرقُ في الشحناتِ يُنْتِجُ فرقاً في الجهدِ الكهربائي (Voltage) و لكنُّه ضئيلٌ جداً، حيثُ يُقدَّرُ بِـ 0.065 فولت فقط. إذاً نستطيعُ أنْ نتخيَّلَ كلَّ خليةٍ على أنَّها بطاريةٌ متناهِيةُ الصِغَرِ ومعزولةٌ عن الخلايا الأخرى بِبَحرٍ من الشحناتِ الموجبةِ [3].
صورة 2
إذاً كيف تستفيدُ سمكةُ الأنقليس من هذه الخاصية؟... الجواب بِكلّ بساطةٍ هو أنّ السمكةَ تقومُ بتوصيل خلاياها لِتُصبحَ و كأنها مجموعةٌ من البطاراياتِ المُوصَّلةِ "على التوالي" مما يرفعُ فرقَ الجهدِ إلى 600 فولت تقريباً –في حينِ أنَّ بطاريةَ السيارةِ تبلغُ 12 فولت فقط- [3] يجعلها ذلك قادرةً على إصابةِ حصانٍ كاملِ النموِّ بـ شللٍ في الحركةِ إذا ما أصابتْه [4].
صورة 3
صورة 4
وفيما يلي شرحٌ لتفصيل ذلك: توصلِ سمكةُ الأنقليس خلاياها على التوالي؛ إذ يحتوي جسمُها على عددٍ كبيرٍ جداً من الخلايا التي يُطلق عليها اسم إلكتروسايت (Electrocyte) و لكلِّ خليةٍ من هذه الخلايا جهةٌ ملساء وأخرى ذاتُ نتوءات، كما أنَّ الجهة الملساء متصلة بـ ليفٍ عصبي (صورة 3). فَـفي الحالةِ الطبيعيةِ (Resting state) يكونُ فرقُ الجهدِ بين داخلِ الخلية –ذي الشحنةِ السالبة- و خارجها –ذي الشحنة الموجبة- هو 0.065 فولت، و تكونُ كلَّ خليةٍ معزولةٍ عن الأخرى؛ بسبب الشحناتِ الموجبةِ و الموجودةِ بين الخلايا. [3] وعندما يتمُّ إرسالُ إشارةٍ إلى الخليةِ عن طريقِ الليف العصبي (Active state)، يتمُّ فتْحُ معابرَ خاصةٍ في الجهة الملساءِ لِتسمح لِبعض الأيوناتِ الموجبةِ بالدخول إلى الخلية وخروج بعض الأيونات السالبة منها في الوقتِ ذاتِه.
يتولد بذلك فَرْقَان في الجهدِ على كلا جِهَتَي الخليةِ، الأول؛ بين خارجِ الخلية والجهةِ الملساءِ و يُقدّر بـ 0.065 فولت، والثاني؛ بين خارجِ الخلية والجهة المتجعدة ويُقدر بـ 0.085 فولت (صورة 4). و تكونُ أقطابُ هذين الجهدين في نفس الاتجاهِ؛ حيثُ يُعطِيانِ مجموعَ جُهدٍ قدرُه 0.15 وبذلك يكون جهد الخلية الواحدة (0.065 + 0.085) فولت [3]. بعدَ أن قامتِ الخليةُ بإخراج بعضِ أيوناتِها السالبة، يظلُ المُحيطُ الخارجيّ حاوياً على شحنةٍ سالبة بالإضافة للشحنةِ الموجبةِ الموجودةِ مُسبقاً؛ مما يسمحُ للخلايا بأنْ تتَّصلَ بِبعضها البعض على التوالي وكأنَّها بطارياتٍ تمَّ توصيلُها متوالية (صورة 5 ، 6). [3]
صورة 5 وصورة 6
ولكن هناك نقطةٌ يجبُ التنويهُ إليها، و هي أنَّ تلك الإشارةِ التي تأَمرُ الخليةَ بتبادلِ الأيوناتِ وبالتالي تكوينَ الصعقةِ الكهربائيةِ، لا تستمرُ طويلاً و إنما تدومُ لفترةٍ تُقدَّرُ بأجزاءٍ من الثانية فقط. و هذا هو أكبرُ ما يَحُدُّ من قدرةِ هذا المخلوقِ على إنتاجِ الصعقاتِ الكهربائية [3].
كيف يصطاد سمكُ الأنقليس فرائسه ؟!
قام العلماءُ بدراسةِ سمكِ الأنقليس منذُ أكثرِ من مائتي عام، ولم تَسْتَطِع تلكَ الدراسات التوصلَ إلى استراتيجيةِ الأنقليس في اصطيادِ فرائسِه، حتى جاءَ العالمُ (Kenneth Cantania) في السنة الماضية 2014 وقام بكشفِ أحدِ أسرارِ هذا المخلوق. حيث قام بمجموعةٍ من التجارب ذاتِ البيئةِ العلميةِ وتوصَّلَ إلى نتائجٍ أبهرتْ المجتمعَ العلمي [1].
إنَّ هذه الأسماكَ تقومُ باصطياد فرائسها وابتلاعها قبل أنْ تُدركَ أعينُنَا ذلك. لذلك قام باستخدام كاميرا فيديو ذاتِ سرعةٍ عاليةٍ حيثُ تلتقطُ 1000 صورةٍ في الثانية الواحدة، عندها فقط ظهرتْ بعضُ القدراتِ الخفيِّةِ لهذهِ السمكة [1]، والتي سنحاول إيجازها فيما يلي مع التجارب التي مكنتنا من معرفة هذه القدرات:
أولاً: تستطيع سمكةُ الأنقليس التحكمَ بفرائسها عن بُعد، حيث تقومُ بالتلاعب بالسيالاتِ الكهربائية الواقعةِ في الأعصاب الواصلة بين الحبل الشوكي وعضلات الفريسة مِمَّا يسمحُ لها بإيقافِ حركتِها [1].
التجربة: قام الباحث (Catania) بـ ثلاثِ تجاربٍ هي كالتالي:
1- تمّ وَضْعُ سمكةُ الأنقليس و سمكةٍ صغيرة (بعد أن تم إزالة دماغها) في حوضٍ واحد، و لكن تمّ الفصلُ بينهما بجدارٍ يمنعُ سمكة الأنقليس من رؤيةِ السمكةِ الصغيرة و لكنه لا يمنعُ النبضات الكهربائية لِسمكة الأنقليس من المرور. ثم تمَّت إضافةُ بعضِ الديدان في الجهة التي تحوي سمكَ الأنقليس، عندها قام الأنقليس بإطلاق مجموعةٍ كبيرةٍ من النبضات كي يَشلَّ الديدان عن الحركة، و لكن جزءاً من هذه النبضات وصلَ إلى السمكة الصغيرةِ خلفَ الجدارِ و تَسَبَّبَ بانقباضٍ في عضلاتِها وإيقافها عن الحركة هي أيضاً؛ من هنا استنتج أنّ الأنقليس لا يتحكمُ بدماغ الفريسة [1] [2].
2- تمَّت إعادةُ التجربةِ السابقة ولكن هذه المرة بإزالةُ الدماغِ والحبلِ الشوكي من السمكةِ الصغيرة التي تسبح خلف الجدار، و لاحظ أنّ لسمكةُ الأنقليس أيضاً قدرة على إصابةِ هذه السمكة بالشَّلَلِ عن الحركة عندما تقوم بإرسال نبضاتها الكهربائية. استنتج أنّ الأنقليس لا يتحكم بالحبل الشوكي للفريسة [1] [2].
3- أعيدت التجربة مرة أخرى بعد أنْ تمَّ تخديرُ السمكة الصغيرة بواسطة مخدِّر الكُورَار (Curare) والذي يمنعُ السيالاتِ والأوامرِ العصبية من الوصول إلى العضلات، و عندها كانت المفاجأة، حيثُ لُوحِظ أنّ النبضات الكهربائية للأنقليس لا تؤثِّرُ على عضلات السمكة الصغير ولا تُوْقِفُها عن الحركة، و من هنا استنتج أن الأنقليس لا يتحكم بالعضلات نفسها وإنما بالعصب الواصل بين العضلات والحبل الشوكي للفريسة [1] [2].
ثانياً: تستطيع سمكة الأنقليس أنْ تبعثَ نبضتين أو ثلاثِ نبضاتٍ كهربائية استكشافية إذا ما كانتْ في بيئةٍ يصعبُ فيها الرؤيا [1] [4]، بحيث تقوم هذه النبضاتُ بتحريكِ عضلاتِ الفرائس ومن ثَمَّ يستطيع الأنقليس تحديد موقع الحركة عن طريق مستقبلاتٍ شعرية حساسة للحركة متواجدة على جلده [1].
التجربة: أعيدت التجربة السابقة، و لكن تم وضع السمكة الصغيرة –التي تم إزالة دماغها وحبلها الشوكي- في كيس بلاستيكي بحيث يمنعُ النبضاتِ الكهربائية من العبور، ثم أجريت الاختبارات التالية:
1- عندما أرسل الأنقليس نبضتين كهربائيتين، و لكن السمكة المعزولة لم تُظهر أي حركة، لم يقُم الأنقليس بـ إرسال مجموعة كبيرة من النبضات الكهربائية لكي يشلّ حركتها (صورة 7 أ) [2].
2- عندما أرسل الأنقليس نبضتين كهربائيتين، حرّك الباحث السمكة الصغيرة، عندها قام الأنقليس بإرسال سيلٍ من النبضات الكهربائية في محاولة منه لكي يشلّ السمكة الصغيرة عن الحركة (صورة 7 ب) [2].
3- لم يقُم الأنقليس بإرسال نبضتين كهربائيتين، و لكن عند تحريك السمكة الصغيرة، قام الأنقليس كاستجابة مباشرة بإرسال سيل من النبضات الكهربائية الصاعقة (صورة 7 ج). [2]
صورة 7
إذاً نستطيع أنْ نُلخِّص ما سبق في أنّ لِسمكةِ الأنقليس نوعين من النبضات الكهربائية عندما تقوم بالاصطياد:
1- نبضتان أو ثلاث نبضات استكشافية، هدفها تحريك عضلات فرائسها القريبة من محيطها؛ للتمكن من معرفة مكانها عن طريق المستقبلات الشعرية الحساسة للحركة.
2- سيل من النبضات الكهربائية، هدفها شلُّ عضلاتِ فرائسها بحيث تمْنَعُها مِن الحركة ومِن ثَمّ تَبْتَلِعُها.
لماذا لا تُصاب سمكة الأنقليس نفسها بالصعقة الكهربائية عندما تُنتجها؟
سؤال قد يتبادر إلى الذهن بعد هذا الشرح لكنّ العلمَ لم يجب بَعْدُ على هذا السؤال [1]. توجد عِدِّة اقتراحات وتكهنات حولَ هذا الموضوع، فهناك بعض العلماء الذي يظنون أنّ لتركيب جسم الأنقليس السبب الأكبر في ذلك، حيث أن معظم أعضائها الحيوية (القلب، الكبد، الأمعاء) تم عزلها في مقدمة الجسم (صورة 8) [1]. و هناك من يقول أن الأنقليس يُصاب بالصعق الكهربائي عندما يصعق فرائسه و لكنه قد تكيّف على هذه الصعقات بحيث أصبحت لا تؤثر عليه [1]، ولكن كل هذا لم يُثبت بعد.
ماذا عنك عزيزي القارئ، هل تُفكّر في سبب منطقي آخر يمنع هذه السمكة من صعق نفسها؟ شاركنا رأيك في التعليقات
صورة 8
المصادر:
1- هنا
2- Catania K. (2014). The shocking predatory strike of the electric eel. Science, 346(6214): 1231-1234. هنا
3- هنا
4- هنا