العمارة والتشييد > التصميم المعماري
برجي منتزه جسر بروكلين: بين ما يفترض بالعمارة إنجازه والواقع المرّ الذي يتحداها
إن المسابقة المعمارية الكبيرة التي قامت لإنشاء برجين سكنيين في منتزه جسر بروكلين Brooklyn Bridge Park أخذت ضجة عالمية. هل تعود أسباب التغطية الإعلامية الواسعة إلى الفكرة التصميمية وحدها؟ أم تلعب عوامل أخرى كالرأسمالية وتفضيل الأرباح عن احتياجات المجتمع المحلي دورها؟
توقع الناس بعد الإعلان عن وجود 14 مقترحاً نهائياً لمسابقة البرجين السكنيين في حديقة جسر بروكلين على رصيفها البحري رقم 6، أن كل المشاكل السابقة قد انتهت وتم إيجاد حلٍ يرضي جميع الأطراف. حيث تم، منذ سنين خلت، اقتراح من قبل المطور العام للمنتزه General Project Plan (GPP) بتخصيص جزء من أرضه لمشروعات تطويرية مستقبلية قد تكون سكنية، خدمية تجارية أو فندقية، بشكل يؤمن الاستقرار المادي والتمويل الكافي لصيانة هذا المتنفس الطبيعي وتطويره باستمرار. إلا أن هذا الاقتراح قد واجه الرفض الشديد من قبل المجتمع المحلي وأدى بالتالي إلى سنين عديدة من المعارك القضائية والمعارضات الشرسة، التي تعتمد في دفاعها ضد هذا الاقتراح على النتائج الوخيمة المتشكلة نتيجةً للضرر البيئي الذي سيلحق بالمنتزه، تأثير المشروع على جماله الطبيعي، بالإضافة إلى رفع تساؤلات مهمة تشكك بنزاهة المرابح والأموال الناتجة عن هذا المشروع. إلا أن إعلان ونشر المخططات التي وصلت إلى المراحل النهائية في المسابقة المخصصة لقطعة الأرض هذه، والمنتسبة إلى بعض من أهم الأسماء والمكاتب المعمارية مثل: Asymptote Architecture، BIG، Davis Brody Bond، Future Expansion & SBN Architects، WASA Studio، وبشكل خاص O’Neil McVoy Architects + NV/design architecture (NVda)، أدى إلى زرع الأمل بوجود نتائج إيجابية تعود بالنفع على المنتزه والمجتمع المحلي ككل.
أبدى O’Neil McVoy وNVda في تصاميمهم المقترحة اهتماماً رئيسياً وأولوية بتحقيق مطالب المجتمع المحلي، وتفادي مخاوفه المتعلقة بخسارة المساحات الخضراء والمناظر الطبيعية الأخاذة في المنتزه. فاقترح الثنائي وفق هذا النهج برجين، الأطول وهو ما يدعى "برج الحديقة الحلزوني"، يتكون بشكل رئيسي من توالي وتكرر نموذج معين من البلاطات الخرسانية المكوّنِة للفراغات الداخلية ولتراسات المشروع، بشكل يحقق هدف الفكرة التصميمية: إيحاء أن أرض المنتزه تمتد عمودياً نحو السماء. كما صُمّم البرج ليحتوي في طابقه الأخير مطعماً عاماً يمنح رواده إطلالةً فريدة من نوعها على مرفأ مدينة نيويورك بشكل عام وعلى القسم السفلي من منطقة مانهاتن المجاورة بصورة خاصة.
أما البرج الثاني الأقصر، "السكن المقطّع وفق أشعة الضوء"، تم تقسيمه إلى ثلاثة أثلاث، بطريقة تسمح لكل سكن أن يكون له نوافذ على الزوايا – وهذه الميزة تشكل سابقة في المنازل ذات الأسعار المعقولة – وتسمح أيضاً لضوء الشمس باختراق المنشأة وتحقيق أقصى استفادة لأشعة الشمس الواصلة إلى أرض المشروع.
شرح O’Neil McVoy وNVda أثناء تقديم مقترحهما أن البرجين سيصبحان من أهم ركائز ودعائم منتزه جسر بروكلين، بقولهما: "يشكل المبنيان بوابةً جنوبيةً متعددةَ الوسائط للمنتزه، فهما يخلقان مدخلاً آمناً للمشاة، مشددين على أهمية الحركة المرورية البطيئة في تلك المنطقة، بالإضافة إلى تأمنينهما ممرات خاصة بالدراجات، واتصال سهل مع وسائل النقل العامة. كما يُكمل المعبر المائي القريب الموقع المثالي المُمَيّز للمشروع، بتأمينه تنوعاً كبيراً في استعمالاته، حيث تم تعريف ممر مشاة جديد فوق جسر بروكلين كوين (Brooklyn-Queen-Bridge) BQE بشكل يصل منتزه جسر بروكلين بشارعState Street ومحطات الميترو القريبة منهما بشكل مباشرٍ وآمنٍ."
نتيجةً لحيازة الأولويات البيئية في الحديقة على كامل اهتمام المعماريين، تم تجهيز البرجين بسطوح خضراء، تجمع مياه العواصف والأمطار لإعادة استخدامها في الري ودورات المياه. تسخن هذه الأسطح وتبرد بواسطة آبار حرارية، وتتميز بقدرتها على تجميع طاقة الرياح أيضاً. " السكن المقطّع وفق أشعة الضوء" سيولّد 15% من طاقته عن طريق توربينات سيزود بها، وسيسمح لسكان "برج الحديقة الحلزوني" شراء توربينات فردية لتأمين احتياجاتهم الشخصية من الطاقة. وهكذا نرى أن التصميم كمجمل جاء تلبيةً لمتطلبات الناس البيئية والاجتماعية مساعداً بذلك على تعزيز أهمية الحديقة في مانهاتن بشكل عام وزيادة عدد زوارها من كافة أرجاء نيويورك.
إلا أن المفاجأة كانت في إعلان فوز الحل التصميمي لمكتب ODA في مسابقة منتزه جسر بروكلين في شهر تموز بتقديمهما مخططا برجين تم وصفهما من قبل جهات متعددة بالعملاقان العاديان الذين يصعب وصفهما. الحقيقة الغريبة أن المقترح الفائز المقدم من قبل الـ ODA لم يكن من بين المقترحات الـ 14 النهائية التي اُعلن عنها في شهر آب السابق. وضحت ريجينا ماير Regina Myer رئيسة شركة منتزه جسربروكلين، بعد رفع العديد من التساؤلات حول هذه النتيجة وميزات التصميم الرابح، أن هنالك عدداً مهماً من المنافع ستنتج عن تنفيذ مخطط شركة ODAومنها: تأمين بيوت ذات أسعار معقولة أكثر من أي مقترح آخر، عدد كلي أقل من الشقق، وبارتفاعات تصل إلى 3 طوابق أقل مقارنة مع الارتفاعات العظمى المحددة كشرط تصميمي من قبل المخطط العام لمشروع منتزه جسر بروكلين General Project Plan (GPP). الكثير من المشككين باستحقاقية فوز الـ ODA يعتقدون أن بعض هذه النقط منطقية، إلّا أنهم حتى الآن لا يستطيعون إيجاد أي تفسير يوضح كيفية فوز جهة بمسابقة على الرغم من عدم انتساب هذه الجهة إلى المسابقة من الأساس. وخاصة أن التصميم المنافس كان يمتاز بمراعاته للمتطلبات والشروط بالإضافة إلى حلوله التصميمية العملية التي تعتبر مربحة لكافة الأطراف المتأثرة بهذا المشروع.
على الرغم من الفروقات الجذرية بين تصميمي O’Neil McVoy وNVda وتصميم ODA الفائز، يعتبر تعليق Rem Koolhaas في كتابه Delirious New York من التصريحات المنطقية الداعمة لفلسفة الحل الفائز. حيث شبه Koolhass العمارة في مانهاتن – نيويورك إلى عملية جراحية معمارية دقيقة، يتم فيها فصل الفراغات الخارجية والداخلية عن بعضها البعض وظيفياً، فلا تعكس الفراغات الخارجية بهذه الحالة وظيفية الحل المعماري الداخلي أو متطلباته بل مهمتها تكون في تشكيل ستارة حاضنة لهذه الفراغات. وهذه المحاججة نظرياً تصب بكل تأكيد في صالح التصميم الفائز، إلا أنها بنفس الوقت تعود إلى مدرسة فلسفية مختلفة، يمكن اعتبارها قديمة. حيث قامت منذ ما يقارب الـ 40 عاماً، وانتشرت خلالها المباني ذات البينة الخارجية المكعبية الشبيهة بالصندوق، برجي التجارة العالميين كانا مثالين عن ذلك، إلا أن هذه الفلسفة أصبحت اليوم شائعةً للغاية وغير مثيرة للاهتمام تصميمياً. يتألف تصميم ODA الفائز، من صندوق متماسك ذات بنية غير مرنة، يستغل وظيفياً أكبر مساحة ممكنة من مجمل مساحة الأرض والطابق، بينما يتجاهل تحقيق المتطلبات البيئية والاجتماعية في الحل التصميمي. كما أنه لا يقدم أي فكرة معمارية جديدة مثيرة للاهتمام، حيث يمكن اعتباره مكعب سكني عادي لا يلائم أو يعكس خصوصية الواقع المقام ضمنه.
سابقاً، ازدهرت مانهاتن معمارياً عن طريق الإبداع والشجاعة في طرح كل جديد. أما اليوم نتيجة استفحال خطر قوة الأجندة الرأسمالية وامتداد نفوذها إلى العمارة والأفكار التصميمية، بكونها من أهم الموارد لتحقيق أرباح مادية طائلة. يجب علينا العمل بدقة وفعالية على حماية الفكرة المعمارية من الأشخاص الذين يسخرون أموالهم الطائلة وكافة امكانياتهم لزيادة أرباحهم، غير مهتمين بتبعات هذه الأفعال على مدنهم بالمقام الأول والمجتمعات المحلية المجاورة ومتطلبات سكانها ثانياً. فما حدث في منتزه جسر بروكلين يشكل خسارة فادحة ليس فقط لزوار المنتزه ولمدينة نيويورك، بل للعمارة كافة بشكل عام.
كنتيجة، يحتاج زمننا هذا إلى جيل من المعماريين المتحديين لهذه العقبات والمصاعب والراغبين بحماية المشاريع ذات الأهداف النبيلة التي تخدم الناس والمجتمعات المدنيّة التابعة لها. إن مشروع O’Neil McVoy وNVda يعدّ من المشاريع الناجحة التي وجدت حلاً عملياً بين الأجندة الرأسمالية ومطالب واحتياجات الناس العملية والاجتماعية، فتميزت عبقرية التصميم معمارياً كما رسمت مثالاً مهماً لكل معماري يطمح في تصميم مشروع يعود بالفائدة على المجتمع والمطورين على حد سواء.
المصدر: