الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة
نشأة الوجودية - الجزء الأول
الوجودية هي أن تكون حرًّا، أن تكون إنسانًا صاحب قرار وإرادة وكيان، أن تحيا حياتك بحق، أن تحدد وتختار خياراتك بنفسك، أن تدرك الموت وتتأهب له ولاتخشاه وتتمرد وتعيش، أن تتجرأ لتتخذ قراراً ما في مسألةٍ ما، أن تعمل ما تحب، أن تحب من تريد وما تريد، أن تخلق محيطك الذي ترغب، وأن تنسف القوالب الجاهزة المقيتة التي ورثتها دون حولٍ لك ولا قوة، أن تتجلى بإنسانيتك وكينونتك بأبهى حُللِها، أن تكون أنت، أنت بكل ما فيك.
دائماً ما يردد الوجوديون عبارة لفولتير: "كن رجلاً ولا تتبع خطواتي". إنَّ الفلسفة الوجودية حينما قامت، إنما جاءت ناقدة عاملة في اتجاه مضاد لتلك الحركات الجماعية وتلك الفلسفات التي تدعو إلى صبِّ الناس في محددات وبديهيات معينة من ناحية الاعتقاد والتفكير وأسلوب الحياة ونوع السلوك. سنتناول الفلسفة الوجودية وسنعرضها في سلسلة تتضمن تعريفاً بها، لماذا نشأت؟ وما موضوعاتها وسماتها؟
يُرجِع بعضُ الباحثين أصل الوجودية إلى القديس أوغسطين (354-430)، لكن الفلسفة الوجودية المعاصرة، ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر ثم برزت في القرن العشرين. وقد بدأت مع الفيلسوف الدانماركي كيركجور (1813-1855)، والفيلسوف الألماني هيدجر (1889-1980)، والفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر (1905-1981). (1)
أما إذا أردنا أن نُحلل ونُفصل لفظ الوجودية فإنَّ الفعل "يوجد exist " مشتق من الفعل اللاتيني ex-sistere والذي كان يعني أصلاً يبرز standout أو ينبثق emerge ، أي فإنَّ معنى أن يوجد شيء هو أن يبرز أو ينبثق من خلفية معينة بوصفه شيئاً موجوداً حقيقياً، وليس ذلك الوجود العابر كالطِّيف أو الخيال.
ويُعرِّف كيركجور الوجود بأنَّه: "وجود عيني فريد لشخصية الموجود البشري الفرد"، ويقول هيدجر: "هو الوجود المتمثل في حالة الإنسان والذي يُطلَق عليه الوجود المتعين Dasein"، ويعرِّفه سارتر بأنَّه: "الوجود الفردي العيني هنا والآن" . (2)
تعدُّ الوجودية ثورة فكرية على الفلسفات السابقة، فهي لا تُلقي بالاً إلى دراسة الماهيات والمعاني المجردة، بل تهتم بدراسة الوجود العيني والواقعي للإنسان، وتهتم بدراسة الإنسان في وجوده الحسي وفي حياته اليومية لا في علاقته بالوجود، فالإنسان الفرد هو نقطة البداية في هذه الفلسفة؛ إذ تهتم به من ناحية حقيقته الواقعية وتجربته الحسية التي يتفاعل فيها تفاعلاً مباشراً مع محيطه؛ لأنَّ الفلسفات التقليدية تهتم بالإنسان المجرد من كل تعيين، كانت السمة العامة التي بدت على الإنسان صبغةً عقليةً جوفاء لا تربطها بالواقع رابطة، فظهرت الوجودية لتدرس الإنسان المحدد بمواقفه الواقعية التي تربطه بمكانه وزمانه وظروفه، وهذا الذي أعطى للوجودية طابعها الإنساني الواقعي الحي المميز الذي جعلها تعبيراً عن دراما الوجود بحق. (1)
يتسم هذا المذهب بقدر من الهلامية؛ إذ يقول سارتر:" إنَّ كلمة الوجودية أصبحت الآن تطلق بغير ضابطٍ عن أمورٍ بلغت من الكثرة حدًّا جعلها لم تعد تعني شيئاً على الإطلاق! ويشير أبو الوجودية الحديثة كيركجور في كتابيه: "الشذرات الفلسفية" و "حاشية ختامية غير علمية" إلى أنَّه لا يوجد شيء محددٌ باستمرار، فكل شيء هو عبارة عن شذرات غير مكتملة، ولا يمكن أن يُعرف العالم ككل إلا من قبل عقل استثنائي، الذي حتى وإن وجد سوف تكون هناك فجوات وثغرات في المعرفة التي يحصلها، وهذا ما ينطبق على أي فلسفةٍ كانت.
تتلخص فكرت الوجودية عن الوجود بثلاثة اتجاهات رئيسة:
1- الوجود ليس لوناً من الوجود بالفعل، وإنما هو وجود بالقوة. فأنا لا أمتلك ذاتي الآن وإنَّما أصبح ذاتي فيما بعد.
2- الوجود هو الحرية من ناحية أنَّ الحرية هي هبة؛ إنَّ الحرية تعدُّ من أهم القضايا التي تبحثها الفلسفة الوجودية وتهتم بها، وتُعدُّ عند الوجوديين عامَّةً الوجود الإنساني نفسه. هي ضرورة، لكي يحقق الإنسان وجوده، ومن أهم المرتكزات عند سارتر، فهو يرى أنَّ الإنسان حر، وأن له الحق، أن يكون (هو هو).
3- الوجود هي الذات الفردية التي لا تُستبدل ولا يُستعاض عنها.
سبب ظهور الوجودية:
ككل شيء في الحياة كان لظهور الفلسفة الوجودية سبب؛ هي فلسفةٌ للحياة المعاصرة المثقلة بالهموم التي تتمثل بالقلق والملل والخوف والضياع والكبت النفسي، هذه المشاعر التي أصبحت سمة العصر. برزت الوجودية وتبلورت في البلاد غير المستقرة، والتي تعرضت البنية الاجتماعية فيها إلى زعزعة وشرخ. أما في البلاد المستقرة نسبياً والتي لم تمر بتلك التجارب الحادة من حروب وفوضى وبطالة وانتشار للأوبئة وفساد وغيرها من المظاهر السلبية، لم يتطور فيها ذلك اللون من التفلسف الذي ينبع أساساً من التجارب القاسية والتي تؤثر بالتالي في الإنسان وكينونته في الحياة.
أما الأفكار الرئيسة التي دارت عنها الفلسفة الوجودية فقد نمت من التأزم العميق الذي عاشه الإنسان بكل وجدانه نظراً لوجوده في عالَمٍ مهموم، عالَمٍ لا مخرج له مما هو فيه، عالَمٍ منغلق. ولدت الوجودية من الثورة على هذا الانغلاق، ومن توكيد قدرة الإنسان التي لا تقهر على مقاومة العدم، وإعطائه معنى وتجاوزه.
الوجودية والأدب:
من الجدير بالذكر أنَّ الوجودية تؤكد تأكيداً كبيراً على الأهمية العملية التي نقترب منها في فهم الحقيقة ومعرفتها أو الوصول إليها، وهذه الأمور نحصل عليها من الجهد في التفكير، وهو النشاط الذي نصل من خلاله إلى المعرفة، فالوجودية بنظرتها هذه إلى التفكير تخالف التراث الفلسفي الذي يذهب إلى أنَّ الفكر والواقع شيءٌ واحد، وهذا ما ظل مُسيطراً على الفلسفة الغربية.
لأنَّ الفلسفة الوجودية تعتمد على التجربة الحية الذاتية لصاحبها، اتجه بعض فلاسفتها مثل سارتر إلى التعبير عن فلسفتهم وأفكارهم عن طريق مذكرات يومية أو أدب مسرحي وروائي، فقد عدُّوا الفلسفة الممتزجة بالأدب أكثر صدقاً في التعبير عن الأفكار من التنظيرات الفلسفية، ومن هنا نستطيع أن نستنتج الطابع الذي ميَّز هذه الفلسفة عما سواها.(1)
من أعظم الأعمال الأدبية في القرن التاسع عشر التي قدمت بعضاً من موضوعات الوجودية هي "الأخوة كرامازوف" و" مذكرات في باطن الأرض" لِفيودور دوستويفسكي. إضافةً إلى روايتين عظيمتين إحداهما للعبقريّ ليو تولتسوي، وبحثه في موضوع الموت في رواية "موت إيفان إيلفتش"، وبحث توجنيف للعدمية في رواية " الآباء و الأبناء". (2)
أثَّرت الوجودية في الفن الحديث تأثيراً مباشراً، وبخاصة في الفن التكعيبي والسريالي وبقية المذاهب الفنية الموازية لظهور الوجودية.
استند في إعداد هذه السلسة إلى المراجع التالية:
1- جون ماكوري،الوجودية،ترجمة إمام عبد الفتاح إمام،(الكويت: عالم المعرفة،1978).
2- ريجيس جوفيليه، المذاهب الوجودية، ترجمة فؤاد كامل،(بيروت: دار الآداب،الطبعة الأولى،1988).
3- هنا
4- توماس آرفلين،الوجودية مقدمة قصيرة جدا،ترجمة مروة عبد السلام،( دار الهنداوي، الطبعة الأولى،2014)
5- ماجد حسن، الفلسفة الوجودية، مجلة الحوار المتمدن، 2004 ، رقم العدد 802