الاقتصاد والعلوم الإدارية > اقتصاد
الكســاد العظيم
الكساد العظيم هو أشدّ و أطول ركود اقتصادي في تاريخ العالم الصناعي الغربي حيث ضرب آميركا الشمالية و أوروبا و غيرها من المناطق الصناعية في العالم، و قد بدأ في عام 1929 و استمر حتى حوالي سنة 1939 أي عند اندلاع الحرب العالمية الثانية. بدأ كل ذلك في الولايات المتحدة الأمريكية حيث دخل الاقتصاد الأمريكي في مرحلة ركود عاديّة في صيف 1929 فانخفض الإنفاق الإستهلاكي و بدأت البضائع غير المباعة تتراكم مسببّة تباطؤ في الإنتاج. في الوقت نفسه واصلت أسعار الأسهم في الإرتفاع، و بحلول خريف العام نفسه وصلت أسعار هذه الأسهم إلى مستويات لا يمكن تبريرها من خلال الأرباح المستقبليّة المتوقّعة لها. و في الرابع و العشرين من تشرين الأول (أكتوبر) عام 1929 انفجرت هذه الفقاعة أخيراً فبدأ المستثمرون بإلقاء الأسهم بشكل جماعي، أعداد هائلة من البشر تحاول بيع أسهمها و لكن لا من مشتري، فسُجّل في ذلك اليوم تداول 12.9 مليون سهماً، و سُمّيَ هذا اليوم لاحقاً "الخميس الأسود". بعد خمسة أيام، أي في "الثلاثاء الأسود" تم تداول ما يقارب 16 مليون سهم بعد موجة أُخرى من الذعر اجتاحت وول ستريت، و بذلك فقدت ملايين الأسهم قيمتها. فسوق الأوراق المالية و التي كانت تبدو أنها أضمن طريقة لتحقيق الأرباح، سُرعان ما أصبحت الطريق إلى الإفلاس. اختفت ثقة المستهلكين تماماً عقب إنهيار سوق الأوراق المالية مما أدّى إلى انكماش عالي في الإنفاق و الإستثمار، و ذلك بدوره لم يترك الخيار للشركات و المصانع و غيرها سوى القيام بالحدّ من كميّة الإنتاج و الإستغناء عن الكثير من موظفيها. بحلول عام 1932 كان قد انخفض الناتج الصناعي المحلي الأمريكي إلى 54% من مستواه عام 1929 و كان مستوى البطالة قد ارتفع إلى 25%-30% أي ما بين 12 و 15 مليون عاطل عن العمل. و كان للمصارف نصيبها. فبما أنّ العديد من البنوك كانت قد استثمرت أجزاء كبيرة من مدّخرات موكليها في سوق الأوراق المالية، فقد اضطُر بعضها إلى إعلان إفلاسها بعد تحطم السوق، مسبّبة حالة من الذعر في أنحاء البلاد، فهرع الناس إلى البنوك التي ما زالت و بصعوبة قائمة على أعمالها لسحب أموالهم خوفاً من فقدانها، و ذلك أدّى بالطّبع إلى إغلاق و فشل هذه البنوك بدورها، و من لم يسحب أمواله في الوقت المناسب أي قبل إغلاق البنوك قد أفلس أيضاً بدوره. بحلول عام 1933 نحو 11,000 بنك في الولايات المتحدة من أصل 25,000 كانت قد فشلت. بدأ الكساد العظيم في الولايات المتحدة، و لكن سرعان ما تحوّل إلى ركود اقتصادي على مستوى العالم و ذلك بسبب العلاقات الخاصة بين الدول و خصوصاً تلك التي نشأت بين الولايات المتحدة و الدول الأوروبية غداة الحرب العالميّة الأُولى. ففي هذه الفترة، أي فترة ما بعد الحرب، خرجت الولايات المتحدة منها على أنها المُموّل الرئيسيُّ للدول الأوروبية التي ضعف اقتصادها كثيراً بسبب الحرب نفسها، و بسبب الديون التي تراكمت عليها، و في حالة ألمانيا و الدول المهزومة الأُخرى، بسبب الحاجة إلى دفع تعويضات الحرب. عند تراجع الاقتصاد الأمريكي و جفاف الإستثمارات التي كانت تتدفّق من الولايات المتحدة إلى أوروبا حينها، انهار الاقتصاد الأوروبي بدوره مثبّطاً مخططات النمو و الإزدهار في هذه الدول، و خاصة تلك التي كانت أكثرها مديونية، أي ألمانيا و بريطانيا العُظمى حيث ضربهما الكساد بعمق. ففي أواخر عام 1929 شهدت ألمانيا إرتفاع حاد في مستوى البطالة، و بحلول أوائل عام 1932 كانت قد بلغت هذه النسبة 25% أي ما يقارب 6 ملايين عامل. و بالعودة إلى الولايات المتحدة و لسوء الحظ، فقد رافق الكساد العظيم جفاف و قحط و عواصف ترابيّة شديدة ضَربت منطقة السهول العُظمى محدثةً أضراراً كبيرة، و سُميت هذه الظاهرة ب "Dust Bowl" إي عواصف الغُبار. فحتّى المزارعون الذين عادةً ما ينجون من فترات الركود الاقتصادي معتمدين على محاصيلهم، وجدوا أنفسهم في الطرقات إلى جانب الملايين غيرهم من النّاس دون عمل يبحثون عن قوتهم اليومي. كان هربرت هوفر "Herbert Hoover" رئيساً للولايات المتحدة عندما ضرب الكساد العظيم ضربته، و كان الرئيس هوفر، و هو جمهوري و وزير تجارة سابق، ضد تدخل الحكومة في الشؤون الاقتصادية، فقد كان يعتقد أن الحكومة الأمريكية لم يكن لديها مسؤوليّة لخلق فرص عمل أو توفير أي شكل من أشكال المساعدة الاقتصاديّة لمواطنيها، فلامه الشعب بشكل تلقائي، فسُمّيت مدن الصفيح التي انتشرت في تلك الفترة ب"Hoovervilles" أي مدن هوفر، و كان بعض الناس يتسكّعون في الشوارع و جيوب سراويلهم الداخلية مطواة إلى الخارج لإظهار أنها خالية، و كانت هذه الظاهرة تُدعى "Hoover flags" أي أعلام هوفر. في الإنتخابات الرئاسيّة عام 1932 فاز فرانكلين د. روزفلت "Franklin D. Roosevelt" من الحزب الديمقراطي فوزاً كاسحاً على هوفر، حيث علّق الشّعب آمال كبيرةً على الرّئيس الجديد و بقدرته على حلّ مشاكلهم و إخراجهم من هذه الأزمة. و ما أن استلم روزفلت منصبه حتى قام بإغلاق جميع المصارف و السّماح لها بالعمل فقط عند استقرارها، كما بدأ بالعمل على عدّة مشاريع و برامج صُمّمت خصيصاً لإخراج البلاد من وضعها آنذاك و الّتي أصبحت تُعرف فيما بعد بالصّفقة الجديدة. خلال أوّل مئة يوم من استلام روزفلت منصبه وضعت إدارته التّشريعات التي تهدف إلى تحقيق الاستقرار الصّناعي و الزّراعي و خلق فرص العمل و تحفيز عمليّة الإنتعاش الاقتصادي. بالإضافة إلى ذلك، سعى روزفلت لإصلاح النظام المالي فأقام شركة تأمين الودائع الفيديرالية "FDIC" لحماية حسابات المودعين، و هيئة الأوراق الماليّة و البورصة "SEC" لتنظيم سوق الأوراق الماليّة و منع التجاوزات التي أدّت إلى كارثة عام 1929 عند تحطّمها. أمّا روزفلت كشخص و رئيس، فقد كان يبعث على الهدوء و التفاؤل، فقد أخذ يخاطب الشعب مباشرةً عبر الرّاديو في سلسلة من المحادثات التي أعادت نوعاً ما ثقة الشّعب، و قال مقولته الشهيرة "إن الشّيء الوحيد الذي علينا أن نخافه هو الخوف نفسهُ". كل ذلك جعل من روزفلت بطلاً في نظر الكثير من النّاس، فقد وجدوا فيه شخصاً يهتمُّ بعمقٍ بالمواطن العاديِّ البسيط و أنَّه بالفعل قد بذل قصارى جهده لإنهاء الكساد العظيم. و لكن، إذا نظرنا إلى الوراء، و مع كل ما فعله روزفلت، فإنه من غير المؤكد مدى فعالية "الصّفقة الجديدة" التي كان الأخير على رأسها بإنهاء الكساد العظيم. لا شكّ في أنّ هذه الّصفقات و البرامج خففت من حدّية الكساد و لكن ما هو الشّيء الذي يُعتقد بأنه أخرج الولايات المتحدة نهائياً من الكساد؟ لعب الكساد العظيم دوراً كبيراً في نشأة الحركات السياسيّة المتطرّفة في مختلف الدول الأوروبية، و من أبرزها نظام أدولف هتلر النازي في ألمانيا الذي أنهى بنشاطاته و توجهاته الكساد في ألمانيا بحلول عام 1936 من خلال الأشغال العامة و التّوسع السّريع لإنتاج الأسلحة و الذخائر. اندلعت الحرب في أوروبا عام 1939، فباشرت الحكومة الأمريكية بالعمل على تعزيز البنية التحتيّة العسكريّة للولايات المتحدة، بغضّ النّظر عن موقفها الحيادي التي اتخذته سياستها في بداية الحرب. ثم جاء قرار روزفلت بمساعدة بريطانيا و فرنسا ضد ألمانيا و دول المحور الأُخرى، مما أدى إلى التركيز على الصناعات و إنتاج المزيد و المزيد من الوظائف في القطاع الخاص. كانت نقطة التحوّل عند الهجوم الياباني على بيرل هاربر في كانون الأول (ديسمبر) عام 1941. أعلنت الولايات المتحدة الحرب، فاتجهت مصانع البلاد إلى وضع الإنتاج الكامل و الطاقة القُصوى، كانت هناك حاجة إلى أسلحة، مدفعيّة، سفن و طائرات، بالإضافة إلى حاجات غذائية تُوزّع على الجبهة الداخلية و تُرسل إلى الخارج. هذا التوسّع في الإنتاج الصّناعي و كذلك التجنيد على نطاق واسع بداية العام 1942 خفّض معدّل البطالة إلى ما دون مستوى ما قبل الكساد. و بذلك كان دخول الولايات المتحدة الأمريكية الحرب العالميّة الثانية هو خروجها من الكساد العظيم.
المصادر:
مصدر الصورة: