الفيزياء والفلك > فيزياء
إكتشاف طور غريب من المواد
اكتشف فريقٌ من الفيزيائيين بقيادةِ دايفد شييه "David Hsieh" (وهو استاذ مساعد في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا) شكلاً غريباً من أشكالِ المادةِ، ذلك الشكلُ لم يكن معدناً تقليدياً او مادةً عازلةً أو حتى مغناطيس، بل كان شيئاً مختلفاً كلياً يُمكن وصفهُ بأنه ترتيبٌ مغايرُ للإلكترونات، تلك الحالة قد تفتحُ آفاقاً جديدةً في عالم الأجهزة الإلكترونية بوظائف لم تكن ممكنة من قبل، وقد تكون مفتاحاً لحل لغزٍ طال أمده في فيزياءِ المادة الكثيفة لتجربةِ الناقلية الفائقة superconductivity"" ضمن درجات الحرارة المرتفعة، والتي تنص ان بعض المواد تصبح بدون مقاومة حتى في الدرجات التي تقارب ناقص 100 درجة مئوية.
يقول شييه: "لم نكن آخذين بالحسبان أننا سنكتشفُ هذه الحالة من المادة، ولم يكن هذا الاكتشافُ مستنداً إلى نظريةٍ فيزيائيةٍ سابقة." ويكملُ قائلاً: " عالم المواد الالكترونية محكومٌ بالاكتشافاتِ الجديدة لأطوار المادة؛ التي تؤمن آفاقً جديدة لإجراء المزيد من الأبحاث؛ في سبيل ايجاد خصائصَ فيزيائية جديدة للمادة على المستوى الماكروسكوبي."
تم نشر وتوصيف نتائج بحث شييه وزملائه في عدد تشرين الثاني ضمن مجلة نتشر للفيزياء، وهي متاحة الآن على شبكة الانترنت.
قام شييه وزملائه بهذا الاكتشاف اثناء اختبارهم لتقنية قياس الأبعاد التي تعتمد على الليزر، والتي قاموا بتطويرها مؤخراً في هدف البحث عن ما يسمى بـ "الترتيب المتعدد القطبية".
فما هو الترتيب المتعدد القطبية؟
لنتخيل أن لدينا تجمعاً للإلكترونات يمكنها أن تتحرك حول بلورة ما، تحت ظروف معينة يمكن لتلك الالكترونات أن تصطف بشكل محدد ومكرر، ندعو تلك الحالة بـالطور المتراتب بالشحنة (Charged ordered phase)، ولأن الشحنة هي مقدار سلمي، فذلك الطور يُوَصف بمقدار سلمي.
من جهة أخرى الالكترونات تمتلك ما يسمى بـ"عزم اللف الذاتي" أو السبين (Spin)، فإذا ما اصطفت الالكترونات بحيث يكون السبين لكل منها بجهة واحدة وتشكل ما يدعى بالمغناطيسية الحديدية " ferromagnet" _مثل المادة المغناطيسية الموجودة في البطاقات الائتمانية_، نحصل عندها على الطور المتراتب بالسبين (Spin ordered phase)، ولأن السبين مقدار شعاعي (له جهة)، فإن الطور يُوَصف بشعاع.
ولكن ماذا لو لم تصطف الالكترونات بأحد الشكلين السابقين؟ كأن يكون سبين كل مجموعة من الالكترونات بجهة مغايرة عن سبين مجموعة أخرى داخل البلورة نفسها؟ أو أن تصطف بُطرق لا يمكن وصفها سلمياً او شعاعياً، كأن تحتاج إلى مصفوفة لوصفها؟ تلك هي حالة الترتيب المتعدد القطبية.
الكشف عن الترتيب المتعدد القطبية ليس بالأمر السهل، فالفيزيائيون أمضو العقود الماضية بتطوير أدوات معقدة فقط للكشف عن نوعي الترتيب (الشحنة والسبين). وما قام شييه وزملائه بالكشف عنه هو إحدى حالات الترتيب المتعدد القطبية.
قامت المجموعة باستخدام اداة للكشف عن أثر يُدعى بالأثر التوافقي البصري (Optical Harmonic Effect)، ذلك الأثر يظهر على جميع الأجسام الصلبة ولكنه صعب الرصد، فما هو الاثر التوافقي البصري؟
لتبسيط الامر، لنتخيل أن لدينا غرفة مغلقة، بداخل الغرفة مصباح يُشع ضوءً ذو تردد وحيد، أي يُشع ضوءً ذو لون وحيد، كالأحمر مثلاً، عندها تبدو لنا جميع الاجسام في تلك الغرفة إمّا باللون الأحمر ( اللون الذي يُشعه المصباح) أو عديمة اللون أي بالأسود ، في الواقع ذلك ليس صحيحاً، فليس كل ما نراه سيكون باللون الأحمر والأسود، بل إن سطوح الاجسام في تلك الغرفة سيكون عليها مقدار ضئيل من لون مغاير كالأزرق مثلاً، يتحرك على سطح المنطقة المعرضة للإضاءة، ذلك اللون المختلف غير مرئي للعين المجردة، لأنه يشكل نسبةً ضئيلةً جداً من اللون الاساسي، الأحمر في حالتنا هذه، ووجود تلك النسبة الضئيلة من الضوء هي ما يُعرف بالأثر التوافقي البصري.
قام الفيزيائيون في تجربتهم باستغلال واقع أن أي تغير في البنية التناظرية لأية بلورة، سوف يغير من أثرها التوافقي البصري، من جهة أخرى إن تواجد الترتيب المتعدد القطبية في بلورة ما، سوف يغير من ترتيب وتناظرية الالكترونات في تلك البلورة، لذا هم اعتبروا أن الاثر البصري هو بمثابة بصمة تميز البلورات عن بعضها.
يقول شييه: "وجدنا أن الضوء المنعكس عند التردد التوافقي الثاني قد أظهر عدداً من طرق الاصطفاف، مختلفةً كلياً عن تلك التي نعرفها في بنية البلورات، في حين أن هذا الأمر لم يكن ظاهراً البتة في الضوء المنعكس عند التردد التوافقي الاساسي." وأضاف قائلاً: "إن هذه إشارة واضحة على وجود ترتيب متعدد القطبية".
الفيزيائيون استخدموا في تجاربهم مادةً تدعى أوكسيد ستروتينيوم-إريديوم (Sr2IrO4)، المركب عضو من مجموعة تعرف باسم الإريديات (Irdiates)، المركب له ميزة يتشاركها مع زمرة أخرى تعرف باسم اكاسيد النحاس، فهو قادر على النقل الفائق بدرجات حرارة عالية قد تصل إلى ناقص 173 درجة مئوية.
كلا مركبات المجموعتين لها بُنى متشابهة، فهي تتميز بعزل كهربائي كبير، ولكن ناقليتها الكهربائية تزداد بازدياد نسبة إشابتها، الإشابة تعني إضافة أو ازالة الكترونات من سطح معدن ما بهدف زيادة ناقليته، فعندما تكون نسبة الإشابة مناسبة، تتحول تلك العوازل إلى نواقل فائقة.
أكاسيد النحاس أثناء تحولها إلى نواقل فائقة، تمر بمرحلة يصفها العلماء بالزائفة تُدعى تلك المرحلة بـ "pseudogap" أي الفجوة الزائفة، في تلك المرحلة يتطلب تأيين الأوكسيد طاقة أعلى من المعتاد.
لطالما حاول الفيزيائيون الربط بين الناقلية الفائقة والفجوة الزائفة، لأنهم يؤمنون أنه إذا ما تم فهم تلك العلاقة بشكل جيد، فإن النقل الفائق بدرجات حرارة تقارب درجة حرارة الغرفة قد يكون في متناول اليد!. مؤخراً تم رصد الفجوة في اكسيد ستروتينيوم-إريديوم، الغريب في الأمر أن العلماء قد رصدوا حالةً من الترتيب المتعدد القطبية عند درجة حرارة معينة ونسبة اشابة محددة، ولكن لو يزالون غير متأكدين اذا ما كانت تلك الحادثة محض مصادفة أم أن الترتيب يحدث عند تلك النقطة المعينة، وما صرح به شييه يُظهر أن ما قام الفريق بعمله يقترح وجود علاقة بين الترتيب المتعدد القطبية والفجوة الزائفة.
يقول شييه: "هناك اعمال قامت بها مجموعات اخرى، تُظهر دلالات على وجود الناقلية الفائقة في الأوكسيد، بالتنوع نفسه الموجود في اكاسيد النحاس." ويتابع: " بالنظر الى التشابه بين اكاسيد النحاس والإريديات، فمن الممكن أن تساعدنا الاخيرة في حل ألغاز حول العلاقة بين الناقلية الفائقة في درجات حرارة عالية والفجوة الزائفة." شييه صرّح بأن الاكتشافات التي قامت بها مجموعته، تُظهر أهمية إيجاد ادوات جديدة، لاكتشاف ظواهر جديدة.
يقول شييه: "ما أتاح لنا القيام بهذه الاكتشافات هو التقدم في تقنيات هذا العصر." ويضيف: "إن الترتيب المتعدد القطبية قد يكون موجود في مواد أخرى متعددة. "أوكسيد الستروتينيوم-إريديوم هو أول مركب قمنا بالعمل عليه، لذا هذا النوع من الترتيب قد يكون مختبئاً في مواد أخرى، وهذا بالتحديد ما نحن بصدد اكتشافه".
لمزيد من المعلومات عن الناقلية الفائقة يمكن متابعة المقال التالي:
المصدر: