التاريخ وعلم الآثار > تحقيقات ووقائع تاريخية
صراعات داخلية جعلت روما تقود حروباً ضد نفسها
شنّت الإمبراطورية الرومانية القديمة العديد من حملات الفتح عبرَ تاريخها ولكن أبرز الحروب التي بقيت بصمتُها واضحةً هي الحروبُ التي نشبتْ ضمن أسوارها. إنَّ شبحَ الطمع في السيطرة والاغتيالات والاقتتال الداخلي جعلَ الحروب الأهلية واقعاً مفروضاً طيلة فترة نفوذ الإمبراطورية، وكان لها الأثر الأكبر في انهيار روما واضمحلال الإمبراطورية.
وفي مقالنا اليوم سنعرض لكم ستّةَ حروبٍ سببت تغيرات عميقة في إمبراطورية روما القديمة، فتابعوه معنا...
1- حربُ الجنرالات:
تعودُ أُولى الحروبِ الأهليةِ الداخليةِ بسببِ الصراعات الطاحنة وراءَ السلطةِ بينَ كلٍّ من الجنرالين غايوس ماريوس و لوسيوس سولا، حيث بقيتْ روحُ التنافسِ والكراهيةِ بينَ القائدين لسنوات، وفي نهاية المطاف وبعد أن وصلت هذه الأحقاد لمستوى كبير أدّت لقيام الحرب بينهما في عام 88 ق.م. وكان الحدث الذي أشعل الفتيل عندما استطاع الجنرال ماريوس التغلب على سولا في كسب منصب قيادة الجحافل الرومانية للحرب ضد الملك ميثريدتس ثائراً من الغضب بسبب خسارته لمنصب القيادة.
عزم سولا على جمع قواته وقيادتها في موكب عظيم إلى مدينة روما ليعلنها حرباً جريئةً فلم يسبق لأيّ قائدٍ عسكري روماني أن دخلَ المدينة بصحبة جيش. وهكذا استطاع دحض مؤيدي منافسه ماريوس وأجبره على الهروب الى إفريقيا. وبعد إحكام قبضته على المدينة، جمع سولا قواته العسكرية الجبارة وبدأ بملاحقة الملك ميثريدتس ولكنه ما أن ترك المدينة حتى اندعلت الحرب فيها مجدداً بين الطبقة العالمة والطبقة الرفيعة المؤيدة للجنرال سولا. استغلَ ماريوس هذا وعادَ للظهور على الساحةِ مجدداً مجبراً سولا على إرسال أربعين ألفاً من جنوده للمدينة مرة أخرى.
بعد وفاة ماريوس قادَ ابنه الحرب مُنصباً نفسه دكتاتوريا عاملاً على تصفية الكثير من السياسيين المعارضين له وأكمل مواجهة منافس والده سولا وقد استسلم الأخير في النهاية وطلبَ التقاعد طوعياً في عام 79 ق.م.
2- حربُ القيصر وندّه الأعظم بومبي:
وجدَ يوليوس قيصر نفسَهُ عند مفترق طرق خلال العام 49 ق.م، فقد كان منتهياً لتوّه من حملة عسكرية مذهلة في غول "Gaul" ولكن كان قد تحول تحالفه القديم مع القائد العظيم بومبي إلى تنافس يضج مرارة على كلا الطرفين. وقد مارس بومبي الكثير من الضغط على قيصر وذلك عبر إنشائه تحالفاً ضده في مجلس الشيوخ الروماني محاولاً إجباره على سحب جيوشه والتخلي عن منصبه ليصبح مواطناً عادياً. و برغم جميع هذه المحاولات رفض الأخير الرضوخ لها معلناً أن الموت هو خياره ثم حشد رجاله عابراً بهم الى ايطاليا وأشعل الحرب الاهلية الثانية. واستمرت المعارك على مدار الشهور التالية امتدت لتشمل عدة مناطق منها ايطاليا، اسبانيا، اليونان بالإضافة الى شمال افريقيا. جاءتْ نقطةُ التّحولِ عام 48 ق.م في خضم معركة فارسلوس عندما خدع قيصر جيش ندّه على الرغم من تفوق الأخير عسكرياً، فهربَ إلى مصر جاراً هزيمته النكراء خلفَهُ. وفي مصر تعرض بومبي للخيانة وتمَّ إعدامه من قبل الملك هناك. وبموته ظفر قيصر بفوزٍ ساحقٍ جعلَهُ يحظى بمنصبِ الدكتاتور ليعتلي عرشاً قصيرَ الأمد فقد اغتيل على يدِ بعض أعضاء مجلس الشيوخ الحاقدين عليه.
3- حرب أنتوني وأوكتافيان:
لعلَّ المتآمرين الذين طعنوا يوليوس قيصر قد ظنوا أنهم بهذا الفعل يحافظون على الجمهورية الرومانية ولكنّه قد زادَ الطينُ بلة، فقد أشعلت هذه الجريمة نارَ التخبطِ وعدمَ الاستقرار لفترة من الزمن انتهت بحربٍ أهليةٍ جعلت وريث قيصر أوكتافيان وجنراله مارك أنتوني المتنافسان الرئيسيان للسيطرة على روما. رغم كونهما في سابق عهدهما خيرَ حلفاءٍ كأعضاء في الحكومة الثلاثية إلا أنه وبحلول العام 32 ق.م وقعَ كلٌّ منهما في شركِ الطمعِ وحاولَ كلٌّ من جهتِه الظفرَ بالحكمِ عبرَ شنِّ الضغوطات ضدَ بعضهما وكانت فضيحة مارك انتوني بعلاقته مع الملكة المصرية كليوباترا الأثر الكبير في نجاح أوكتافيان بإقناع مجلس الشيوخ بإضرام الحرب على مصر وكان يعني الفوز في هذه الحرب الفوز بروما بأكملها. وبعد شهور من المناورات تواجهت القوات المتحاربة أوكتافيان من جهة و أنتوني مدعوما بجيوش كليوباترا من الجهة الاخرى. كانت أبرز المعارك بينهما هي المعركة البحرية اكتيوم التي حدثت في عام 31 ق.م. كان الأسطول التابع لأنتوني يفوقُ العدو عدداً ولكن تفوق الجنرال أغريبا – قائد قوات اوكتافيان – تكتيكيا عليه أدّى إلى انقلاب الموازين ضد أنتوني فولّا هارباً مع كليوباترا إلى الإسكندرية. انتحر العشيقان فيما بعد، الأمر الذي جعلَ أوكتافيان المسيطر الوحيد على الساحة الرومانية لينصبَ نفسَهُ أيضا الإمبراطور الأول فيها.
4- الحكام الأربعة في عام واحد:
كان عهدُ أوغسطس المزدهر بدايةً لحكمِ سلالته اللاحقة والتي دامت حوالي قرن من الزمن. ولكن انتحار الإمبراطور نيرون السيء السمعة في عام 68 جاء ليعكر صفو هذا الاستقرار ليعتلي العرش أربعة حكام واستمرت فترة تبدل الحكم فيما بينهم لمدة ثمانية عشر شهرا تقريبا.
أمّا عن هؤلاء الحكام فكان أولهم حاكم اسبانيا العجوز الذي أعلنه مجلس الشيوخ إمبراطوراً قبل وفاة نيرون بفترة وجيزة، وكانت طبيعته الاستبدادية مكروهة إلى حدٍ كبيرٍ وقد تمَّ اغتياله لاحقاً واُستبدلَ بحليفٍ قديمٍ اسمهُ "أوثو". ولسوء حظ الأخير تزامنَ استلامه لهذا المنصب بظهور بعض الطامعين الجدد في القيادة. بعد ثلاثة أشهر فقط من اعتلائه العرش تم الإطاحة به من قبل القائد العسكري فيتيلوس المعروف بقسوة قلبه وببسالته بالإضافة الى نهمه الكبير، فقد كان يأمر بإقامة المآدب أربع مرات يومياً كل ذلك أدّى إلى عدمِ استمراره لفترة طويلة حيث قام أتباع الجنرال فيسباسيان بإعلانه امبراطورا وزحفوا الى روما بعتادٍ ضخمٍ ساحقينَ كلّ من حاولَ مواجهتهم، وعلى الرغم من استيلائه على المنصب بطريقة وحشية إلا أنه قد أثبت قدرته على إدارة الامبراطورية ليقودها في فترة استقرار نسبي بعد ذلك.
5- أزمة القرن الثالث الميلادي:
قُتِلَ الإمبراطور الرّوماني الشّاب ألكسندر سيفروس في عام 235 بعدَ الميلاد على يدِ بعض العناصر التابعة له خلال إحدى الحملات على ضفاف نهر الراين محاولين الانقلاب على حكمه، ولكن بتوقيت سيئ للغاية فقد كانت الأراضي الرّومانية آنذاك تحت رحمة غارات قبائل البرابرة المتكررة، وأدّى عدم الاستقرار المفاجئ الذي سببته قضية الاغتيال هذه إلى إضرام حرب أهلية من جديد وكادت تقضي على الإمبراطورية بأكملها. وعلى مدار خمس وثلاثين عام متتالية تناوب على حكم روما العديد من الجنرالات والقادة، فلا يظفر بالعرش أحدهم حتى يقتل سابقه وأصبحت روما ساحة للاغتيالات في كلِّ مكان حتى لم يكفهم ذلك ليأتي الطاعون إلى جانب تهديدات مستمرة من القوطيين والفُرس والقِوى الخارجية الأخرى لتتحول روما لجحيم مشتعل بالفوضى.
ومع تفاقم الأوضاع انقسمت الإمبراطورية إلى ثلاث دول منفصلة. أُعيد توحيدها على يد الإمبراطور أورليان القائد العظيم الذي طرد أعداء روما واستطاع استعادة الاراضي التي سبق وخسروها. ولكن جاءت وفاته لتعيد الحال كما كان سابقا ولم تنته الأزمة إلا بعد قيام الامبراطور ديوكليتيان بسلسلة اصلاحات تمَّ من خلالها تقسيم الإمبراطورية إلى جزأين شرقي وغربي تقاسمَ أربعة قادة جدد الحكم فيها.
6- الحربُ الأهلية تحتَ جناحِ القادة الأربعة:
سهلت الاصلاحات التي قام بها ديوكليتيان حكم الإمبراطورية على المدى القصير ولكن سرعان ما شبت نار التنافس بين القادة الأربعة لتلهب البلاد بحرب أهلية جديدة على أثر خلافات عدة. فقد جاء الخلاف الأول عام 306 بعد الميلاد عندما قام ماكسينتوس بالتآمر مع الحرس البريتوري من أجل تنصيب نفسه كإمبراطور في روما فزحفت قوات الامبراطور سيفروس في روما الغربية لمواجهته ولكنه تعرض للخيانة وتخلى رجاله عنه مما أدى إلى مصرعه واستوى ماكسينتوس على الحكم. وفيما يلي من السنوات أصبحت روما ساحة لعمليات مختلفة من المؤامرات وإثارة الفتن والكل يدعي احقيته بالقيادة ووصلت الأمور الى ذروتها من خلال حرب دامية عام 312 عندما غزا الامبراطور قسطنطين ايطاليا عن طريق الألب وقتل ماكسينتوس في إحدى المعارك. وكان قد شكل قسطنطين تحالف مع قائد اخر ولكن فيما بعد شن حربا عليه مسببا حرب جديدة. عندما اخمدت نار الحروب اخيرا في سنة 324 م، كانت الحكومة الرباعية قد انهارت وأصبح قسطنطين هو الحاكم الوحيد لكلتا الإمبراطويتين الشرقية والغربية وقد مثلت فترة حكمه فصلا جديدا في التاريخ الروماني فاعتُنقت المسيحية في عهده، ولكن عظمة هذه الامبراطورية ومساحتها الشاسعة كانت سببا في خلق الحروب مرة تلو الأخرى كلما لاحت الفرصة في الأفق، فبعد عدة عقد من وفاته عادت الإمبراطورية للانقسام من جديد ليكون الانقسام ضريبة العظمة والمجد.
المصدر: هنا