الفلسفة وعلم الاجتماع > علم الاجتماع
مقصلة كامو، التي وضعت الموت خارج القانون
قرونٌ مرّت ولازالت "العقوبة القصوى"، المتمثلة بمُصادرة حياة الجاني محطَّّ جدلٍ بين مؤيد ومعارضٍ لها، وإن كانت حُجّة الداعمين لتنفيذها تنبعُ من منطق الرّدع، إلّا أنّ الجريمة لم تتوقّف رغم ذلك، وهذا ما ينطلق منه الفيلسوف الوجودي ألبير كامو في معرض طرحهِ لفلسفته المعارضة لهذه العقوبة الأبديّة، مُستنِدًا إلى بحثٍ معمّقٍ في هذه المسألة من كافة جوانبها الإحصائيّة والنفسيّة، وشهادات لجلّادين غارقين بدماء ضحاياهم، وكهَنةٍ باركوا الرّوح قبل خروجها من جسد المحكوم. إليكم مقالنا الذي يتحدث عن فلسفة كامو في الإعدام وتأثر أفكاره مما بعد مماته.
لطالما تفنّن الإنسان في خلق أدواتِ الموتِ، سعيًا منه لتحقيق العدالة تارةً، وللثأر تارةً أخرى، أو لتصفية خصومه السياسييّن وتخويف الشعوب كما يحدث في الدول التي تحكمها الديكتاتوريّات. وإن كان الإغريق قد استخدموا السُّم في إعدام المحكوم عليهم، كما حدث مع سقراط، فإن طُرقًا أكثر وحشيّةً اعتمد عليها الرّومان وأباطرة الصّين والعثمانيّون والأوروبيون إبّان اكتشاف القارة الأمريكية. وإلى اليوم لا زالت بعض الطُرقِ مستخدمة منها، قطع الرأس والشّنق والإعدام رميًا بالرصاص، أو بواسطة كرسي كهربائي أو حقنة سامّة، إضافة إلى غرف الغاز.
تقوم فلسفة كامو بالدرجة الأولى على دحض حُجّة "الرّدع"، مستندًا في ذلك إلى ملاحظتين رئيسيتين:
• الأولى، هي أن القيام بهذه العمليّة خِفية وبعيدًا عن أعين النّاس، وغير مصحوبةٍ بحملة دعائيّةٍ وتغطية تلفزيونيّة، يدعو إلى التساؤل: كيف يمكن لعقوبة تُنفّذ سِرًا أن تكون ذات عبرة؟.
• أما الملاحظة الثانية، فتكمُن في أنه ما من إثباتٍ على أن عقوبة الإعدام قد جعلت قاتلًا مُصمِمًا على أن يكون كذلك، أو شخصًا يحملُ سلاح بغرض إخافة خصمه فوجد نفسه يستعمله فعلًا، جعلته يَعدُلُ عن ذلك. بل إن دراسة عاد إليها كامو، أشارت إلى أن نسبة المجرمين المُدانين، والذين شهدوا واقعة إعدام مجرم آخر من قبل، تصل إلى 68%.
والخطوة الثانية التي ارتكز عليها ألبير كامو كانت تبحث في أعماق النفس البشريّة، حيث غريزة حب الحياة، والتي على أساسها بنى المُشرّع استنتاجه بأن عقوبة الإعدام ستكون رادعًا. ولكن ما أغفله المُشرّع في هذا السّياق، هو وجود غريزةٍ أُخرى على النقيض تمامًا، وهي غريزة الموت، أي الميل لهدم الذات من خلال الإنتحار أو قتل أشخاصٍ آخرين، إضافة إلى وجودِ مشاعرَ مختلطة لدى البشر قد تطغى أحيانًا على التفكير في الموت والرّهبة منه، مثل الحب والثأر والشّرف.
وهناك العديد من الأبحاثً التي تطرّق لها كامو في بناء فلسفته الخاصّة حول عقوبة الإعدام، أفضت إلى أن القاتل غالبًا مايرى نفسه بريئًا، أو على أقل تقدير سيحصل على عقوبة مُخففّة بسبب ظروف ما، منذ لحظة إقدامه على الجريمة وحتى صدور الحُكمَ في حقّه.
هل الإعدام عمليّة ثأر وانتقام؟
وبعد أن وَضّحت فلسفة كامو أنّه ما من نتائج مرجُوّة لردع المجرمِ من خلال التشبّثِ بتنفيذ عقوبة الإعدام. ينتقل إلى تحليلها على أساس الثأر، والمرتبط جذريًا بثقافات الشعوب وشريعة "العين بالعين"، والتي لا تتفق مع مبدأ القانون الأعلى وسبب وجوده الأساس وهو إصلاح طبيعة البشر وتنظيمها، وليس لاستنساخها وتقليدها. فلا يمكن أن يكون القانون استكمالًا للطبيعة البشرية وإلا كان أقسى منها وأكثر ظلمًا.
ولمّا كان الإعدام عملية ثأر فإنه يُعاقب مرّتين، وليس في هذا أي عدل. إنَّ انتظار المحكوم لعقوبة الإعدام يهدم الإنسان قبل موته بفترة طويلة، وهو ينتظر أن ينزل عليه عفواً من السّماء، وهكذا تُفرض عليه ميتتان، بينما لم تزعم هذه الشريعة قط أنه "ينبغي فقء العينين الإثنتين لمن عور أخاه".
كما يرى كامو أن الظُّلم سينعكس على أهل المحكوم طيلة فترة إنتظار تنفيذ الحكم، وهو ما لم يحدث مع أقارب الضحية قبل فقدان ابنهم، مما يعني أن العقوبة انتقلت من الجاني إلى طرف آخر ليس له أي علاقة بالجُرم.
وإنَّ فلسفة كامو لا تعفي الدولة من المسؤولية، فيرى أنّ للأنظمة دورًا هامًا في تعزيز وحشيّة الإنسان، وأنه ثمّة رابطٌٌ كبيرٌ بين الفقر وعدم توفر مساكن لائقة من جهة، وبين ارتفاع نسبة الجريمة من جهة أخرى. وهو ذات الرّابط الطردي الموجود بين معدّل الجرائم المرتكبة في حق الأطفال وبين الإدمان على الكحول.
ولأنه لايمكن أن تتم مُعاقبة إنسانٍ بشكلٍ مطلق، خاصة مع احتمال أن يكون بريئًا كما حدث لـ "بارتون آبوت" والذي أورده كامو كمثال في كتابه المقصلة، فقد أُُعدم قبل دقائق من اكتشاف براءته. إنّ استحالة التأكد من براءة أحدهم من بين المجرمين المحكومين بالإعدام، أو من لا يوجد من يمكن إصلاحه وانعدمت السبل في تحقيق ذلك، أو من لا يمكنه التكفير عن ذنبه حتى نحكم عليه بعقوبة مطلقة لا رجعة فيها. هو ما يحاول كامو تسليط الضوء عليه.
لم تنادي فلسفة كامو بغفران كلِّ شيء، بل إنها ترى أن هذا التفكير "العصري" مُجرّد عواطف قائمة على الجبن، وتُبرّر كل ماهو سيء في هذا العالم، لذلك تطرح استبدال العقوبة وليس الصفح التام. بحيث سيكون للعزلة وتأنيب الضمير أقصى درجات العقاب، من خلال الحبس المؤبّد مثلًا، والذي لا يُعد عقوبة مُتساهلة كما يراها البعض، خصوصًا لو كانت مراكز الإصلاح والسّجون تقوم بدورها الإصلاحي فعلًا وليست منظمات قائمة على التعذيب وهدم الإنسان.
في العام 1981، وبعد 21 عام من وفاة ألبير كامو، تبنّى الحزب الإشتراكي الفرنسي هذه الرؤية في برنامجه الإنتخابي، وقام فعلًا بوقف العمل بعقوبة الإعدام في عهد الرئيس فرانسوا ميتيران، وهي لازالت حتى يومنا صامدة في وجه المحافظين المطالبين بإعادة تطبيقها.
المراجع:
1- ألبير كامو،المقصلة،ترجمة جورج طرابيشي،(دمشق:دار المدى،2007).
2- وزارة الخارجية الفرنسية : هنا