الفلسفة وعلم الاجتماع > مصطلحات
الحداثة
لعلّه من العسير تطويق معنى الحداثة، وضبط كل مكونات وعناصر هذه الظاهرة، لكن من المحتّم أنّه يمكننا رصد علاماتها ومعالمها في بعض المجالات؛ فالحداثة –باختصار- هي ظهور المجتمع الذي يتميّز بدرجة معينة من التقنيّة والعقلانيّة والتعدّد والانفتاح.
وكونيًّا، هي عبارة عن ظهور المجتمع البرجوازي الغربي الحديث، نتيجةً لما يسمى بـ(النهضة الأوروبية).
لنقرأ معًا نشأة هذه الظاهرة، ولنعرف ما سماتها ومظاهرها.
الحداثة من المفاهيم التي جرى حولها جدل ولغط كبيران. يرى البعض أنّ مصطلح (الحداثة) يعود إلى القرن الخامس عشر، أي إلى حركة (مارتن لوثر)، الذي قاد الشقاق البروتستانتي ضد الكنيسة، بعد أن تمرَّدَ على سلطتها المطلقة. ثمة من يربط الحداثة بـ(ديكارت)، صاحب مذهب الشكّ في القرن السابع عشر، والداعي إلى إعمال العقل وإعادة النظر في كل شيء. ومنهم من يربط المصطلح بعصر التنوير، في القرن الثامن عشر، حيث كان ميدانه العقل والاستنارة على ضوء العلم والتكنولوجيا. بينما يرى غالبية الباحثين أن بواكير الحداثة بدأت منذ أواخر القرن التاسع عشر في الغرب، وفي حقول الأدب، بعد أن قَوَّضت الرومانسيّة أركان الكلاسيكيّة، فنشأت الحداثة على أيدي شعراء فرنسا؛ أمثال (شارل بودلير)، و(رامبو)، و(لامارليه). أخيرًا، هناك من ربط مفهوم الحداثة بمطلع القرن العشرين؛ أي عصر الإذاعة والكهرباء، ووسائط النقل السريعة، ووسائل الاتصالات المبتكرة.
وعلى الرغم من تعدد مضامين هذا المصطلح الناتج عن اختلاف تحديد الغرض منه والرؤية إليه، إلا أنّ هناك إجماعًا على أنّ مفكري عصر النهضة كانوا قد تركوا البصمة الأبرز في مجال الدعوة إلى التحديث والحداثة.
تمثّل الحداثةُ الجهدَ الفكريّ الاستثنائيّ الذي يهدف إلى تطويرِ علمٍ موضوعيّ، وأخلاقٍ وتشريعٍ عالميَّين، وفنٍّ مستقلٍّ لا يتبَعُ إلا منطقَه الخاصّ؛ إذ رحّبَ هذا العصرُ بالتغيير، ورأى أنَّ السرعةَ فيه شرطٌ ضروريٌّ لإتمام التّحديث، بالإضافة إلى كثرة مذاهب المساواة والحرّيّة، والإيمان بالذكاء البشريِّ وبالعقل الكونيّ، ورفع راية (الإيمان بالإنسان). كما أتاحت هذه (النهضة الأوروبيّة) الفرصةَ للمجتمعات لتحقيق درجة عالية من التطوّر، الذي مكّنها من غزو المجتمعات الأخرى ودفعها إليه؛ مما أدى إلى حدوث ما يسمى (صدمة الحداثة)، خاصّة لتلك المجتمعات التي تلقّت نتائجَها.
وإذا تتبّعنا الحداثة من الناحية التاريخية، انطلاقًا من التجربة الأوروبية منذ نهاية القرن الخامس عشر وحتى القرن العشرين؛ نجد أنها تمثّل كيانًا عامًّا متكاملًا ذا خصائص متميّزة بثلاث نواحٍ وهي:
1- الحداثة بوصفها بنْية كلّية.
2- التحديث بوصفه سياقًا شاملًا تسير من خلاله عملية الحداثة.
3- النزعة الحداثية بوصفها وعيًا نوعيًّا.
وأمّا عن علاقة الحداثة بالتحديث، فيجد المفكرون بأنّها علاقةُ تَلازُمٍ بالضرورة؛ بمعنى أن التّحديث المادي لا يمكن أن يحدث دون أن يُفضي إلى حداثة فكرية. وعند الحديث عن هذين المصطلحين، نرى أنّ بنْية المجتمع الحديث ووعيه لذاته يرتكزان على جدليّة التغيّر والتحوّل، والتمرّد الدائم على كل ما يحجر أدوات إنتاج المجتمع وعلاقاته.
وعليه تكون الحداثة هي الوجه الذي ينصرف إلى الإنشاء والابتداء على مستوى الفكر والإبداع، بينما التحديث هو الوجه الذي ينصرف إلى تغيير أدوات الإنتاج المادية في المجتمع، والذي يمثّل سياق التحول الاقتصاديّ والتكنولوجيّ، والتطور الصناعيّ.
ويمكننا القول بأنّ سيادة علاقات دولية جديدة بعد الحرب العالمية الثانية، خاصة مع حصول بلدان آسيا وأفريقيا على اسقلالها السياسي؛ كانت دافعًا قويًّا لتداول مفهوم (التحديث)، وتوظيفه في العلوم الاجتماعية والعلوم السياسية .
وعلينا أن نعلم أنّ التحديث أو الحداثة حالة دائمة وعملية مستمرة في إعمال الفكر، ومجاوَزة الواقع، والتطلُّع نحو التجديد، ورفض كثير من القيم التقليدية السائدة.
لكن قد لا يتجلّى تبلورها واضحًا -كما هي حال الحداثة اليوم؛ وذلك بسبب معاندة الظروف واندحار المفهوم أمام قوة وهيمنة الفكر السائد؛ لذلك فالحداثة أو التحديث قد تأخذ فترات من السبات القسري، وقد تطول الفترة لتظهر ثانيةً أكثر جِدّةً وقوّةً وغنًى.
أمّا عن سمات الإنسان الحداثيّ التي خرجت بها جامعة (هارفرد) الأمريكية، إثر بحث ميداني شمل دولًا عديدة من مختلف القارات، فيمكن اختصارها بالتالي:
• استقلالية الفرد عن الرموز التقليدية، وعن التبعية لزعماء القبيلة ورجال الدين؛ ومِن ثَمَّ يكون ولاؤه للوطن الكبير وحده.
• احترام المواعيد.
• الإيمان بعلوم الطبّ علاجًا، بعيدًا عن السحر والشعوذة.
• الاهتمام بالتخطيط في الحياة، وتقدير ظروف ضبط الإنجاب.
• الدعوة إلى قراءة العلوم، ومتابعة الأخبار السياسية على صعيد الداخل والعالم.
• الإيمان بالتغيير والرغبة فيه، والإيمان بقدرة الإنسان الكبيرة على فعل التغيير.
وإذا كان من العسير وضع مقياس مضبوط لقياس مظاهر الحداثة، فإنّه يمكننا على الأقلّ تحديد بعض مظاهرها.
المظهر الأول: المظهر الاقتصادي، الذي يُعَدّ أقوى المظاهر وأكثرَها حضورًا، ويتجلّى في (المَكْنَنَة)؛ أي ارتفاع مستوى التّقنية في الإنتاج واتّساعه، ويكون الاستدلال عليه بالانتقال من الاقتصاد المنزليّ اليدويّ، إلى الإقتصاد الإنتاجيّ الآليّ أو اقتصاد السوق، والانتقال من الاقتصاد الاكتفائيّ، إلى الاقتصاد الاستهلاكيّ والتسويقيّ.
ويصاحب هذا التحوّل انتقال من الطاقة اليدويّة والحيوانيّة إلى الطاقة الهوائيّة والمائيّة، ثمّ الطاقة الكهربائيّة، ثم الذريّة.
إنّ الإقرار بهذا التحوّل يضفي على القطاع الاقتصاديّ جانبًا مؤثّرًا في توجيه مختلف الجوانب الاجتماعيّة؛ والسّبب في ذلك أنّ المجتمعات الحديثة هي مجتمعات اقتصاديّة، لا تنظر إلى قيمة الإنسان من خلال طائفته أو سلالته، بل –كما يقول ماركس- بقدر الإنتاجيّة القادر على تقديمها بهدف تحقيق سعادة الإنسان.
أدّت ديناميّة الاقتصاد الحديث إلى إشراك عدد أكبر من الناس في العملية الاقتصاديّة؛ إنتاجًا وتوزيعًا واستهلاكًا. هذا الإشراك أدى إلى اتساع دائرة المهام، ونشر السلطة؛ مما أدّى إلى زيادة نسبة الإشراك في قطاعات أخرى؛ منها السياسة.
الحداثة السياسيّة: تتميّز هذه الحداثة بتزايد مساهمة فئات واسعة من السكان، إقليميًّا ومركزيًّا، في عملية صنع القرار وإبداء الرأي. صاحَبَ ذلك انتقال تدريجي في كيفية احتكار السُّلْطة، من شكلها القبليّ العشائريّ المرتكز على العصبيات الدمويّة والقرابة، إلى التَّكتُّل الطّبقيّ التدريجيّ، وأصبح المعيار السياسيّ هو المصلحة، لا التضامن أو القرابات.
أيضًا، صاحَبَ هذا الانتقال انتفاء مقولة «قدسيّة السُّلْطة»؛ مما يؤكّد أنّ مظاهر الحداثة السياسيّة عَدَّت الأفكار السياسية مجرد أيديولوجيا خاصة بطبقات معينة، لا حقائقَ مطلقة كما كان معتقَدًا في السابق.
المظاهر المجتمعيّة: وتشمل نموّ الحركيّة الاجتماعيّة؛ إذ إنّ القيم والأنساب والأعراف المتناقلة والراسخة في نظام القيم الفرديّة بدأت بالتراجع؛ فدور الأسرة بدأ يتقلّص، والعلاقات القائمة على القرابة والعصبيات الدموية بدأت تتفكك، لتحلَّ محلّها علاقات قائمة على الموقع الطبقيّ، والدور الإنتاجيّ للفرد. ويُقال بأنّ هذا الانتقال أفقد الحياة دفئها السابق، وأدخل فيها شيئًا من التشيُّؤ.
الحداثة الفكريّة: وهي أكثر المظاهر بطئًا؛ فقد وفّرت المجتمعات الحديثة -بفضل توازن مؤسساتها المختلفة- الدعائم المختلفة للتحديث والانفتاح الفكريّ؛ وذلك بإرجاع الأفكار إلى أصولها الاجتماعيّة والدوافع النفسيّة؛ أي العودة إلى الأصول التي ساهمت في إنتاجها، بدلًا من التعاطي معها على أنّها حقائق مطلقة.
يبقى لنا أن نسأل في خاتمة هذا المقال: ما السمات التي نجد أنفسنا نقف أمامها بوصفها نتيجة لظاهرة الحداثة؟ وهل هي على درجة معينة من الإيجابية أو السلبية؟
يلاحظ المفكرون بأنه أثناء الحديث عن الحداثة، سيمرّ أمامنا ما يدعى (التدمير الخلّاق)؛ أي إنَّ الحديث يُبنى على القديم، ويبدأ تطوير المنتجات والتخلّص من سلبيّاتها الواحدة تلو الأخرى، وإضافة أفكار جديدة لم تكن موجودةً مسبقًا؛ وذلك للحصول على ما هو أفضل.
لكن مع تطور مصطلح التدمير الخلّاق؛ أصبح لدينا أيضًا ما يمكن تسميته (الإقصاء)؛ أي إقصاء ما لا يمكن تطويره، أو ما لا يستطيع مواكبة هذه السرعة في التطوّر والتغيير، خاصة في بلدان العالم الثالث.
كذلك ظهرت حالة من (تسليع السوق) وفتحه تجاريًّا أمام المنتجات الثقافيّة؛ مما أدّى إلى خلق شكل من تنافس السوق، الذي ساهم بدوره في عملية (التدمير الخلّاق)، وأنشأ نوعًا من ظهور(الفردية)؛ حيث بات باستطاعة كل شخص عرض سلعته ومنتجه، وأفكاره كذلك، بغضّ النظر عن نوعيّة وجودة ما يعرض.
وعليه نلاحظ أن الحداثة عملية شاملة متكاملة، شملت جميع جوانب الإنسان الحياتيّة؛ ملبسه ومأكله، وفكره واعتقاداته، وطريقة كسبه وعيشه، وامتدّت إلى نتاجه الأدبي والفنيّ، تلك الجوانب التي جُسِّد فيها الإنسان الحديث.
المصادر:
- مدارات الحداثة- د. محمد سبيلا- الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر-بيروت- 2009
- الحداثة.. نشأة ومضامين- دهام حسن- منبر الحرية- 2007
- الحداثة وما بعد الحداثة-فريد باسيل الشاني- الحوار المتمدن- 2008
- ديفيد هارفي، حالة ما بعد الحداثة (بحث في أصول التغيير الثقافي) تر: د. أحمد شيَّا، مرا: د. ناجي نصر وَد. حيدر حاج إسماعيل، (المنظمة العربية للترجمة وَالمعهد العالي العربي للترجمة)، ط1، (بيروت، آيار/مايو: 2005م.).