الطبيعة والعلوم البيئية > علم البيئة
نسب عالية من الزرنيخ في المياه الجوفية، مَن المسؤول؟
عُرف الزرنيخ عبر التاريخ بكونه مادة شديدة السمية، فهو "ملكِ السُموم" و "سُمِ الملوك". قد يكون مصدره طبيعياً أو بنتيجة النشاطات البشرية ويصل إلى الإنسان عن طريق ما يتناوله من ماء وغذاء مسبباً أمراضاً خطيرة كالسرطان والسكري وأمراض القلب والأوعية الدموية.
تحتوي المياه الجوفية في جنوب وجنوب شرق آسيا على تراكيز من الزرنيخ أكبر ب 20 إلى 100 مرة من الحد الذي تنصح به منظمة الصحة العالمية، مما يؤدي إلى تعرض أكثر من 100 مليون شخص للتسمم بالمياه الملوثة بالزرنيخ في بنغلادش وكمبوديا والهند وميانمار وفييتنام والصين.
تمكن علماء من جامعة ستانفورد (Stanford University) أخيراً من إيجاد حل للغزٍ مهم: من أين تحصل الميكروبات التي تقوم بطرحِ الزرنيخ في المياه الجوفية في جنوب شرق آسيا على غذائها؟ نشر الفريق ما توصل إليه من نتائج في مجلة Nature Geosciences، ويمكن أن توجه هذه النتائج عمليات إدارة الأراضي والتنمية في المستقبل.
يرتبط الزرنيخ مع مركبات لأكاسيد الحديد ضمن صخور في جبال الهيملايا، حيث يتم غسله ونقله عبر الأنهار الرئيسية ليتم ترسيبه في أحواض الأراضي المنخفضة ومناطق الدلتا. ومن المعروف لدى العلماء أنه في غياب الأوكسجين، تقوم بعض البكتيريا التي تعيش في مناطق الترسيب تلك باستخدام جزيئات الزرنيخ وأكسيد الحديد كوسيلة بديلة للتنفس. وعندما تقوم بذلك، فإن الميكروبات تفصل الزرنيخ عن أكاسيد الحديد وتقوم بنقل المادة السامة إلى المياه الجوفية الموجودة في الأسفل.
إلا أن اللغز في هذا النظام يتمثل بغياب مصدر واضح للطاقة يمكن للمكروبات الاعتماد عليه لدعم عملية الفصل تلك.
تجارب حقلية
من خلال هذه الدراسة، أراد العالم سكوت فيندورف Scott Fendorf وفريقه تحديد ما إذا كانت الميكروبات التي تطرح الزرنيخ تتغذى على رسوبيات حديثة موجودة على مقربة من السطح، أو أنها كانت تعتمد على مواد حيوية أقدم، مدفونة على أعماق أكبر. والسؤال الثاني الذي أرادوا الإجابة عليه هو كيف يتغير طرح الزرنيخ من منطقة إلى أخرى في آسيا.
للإجابة على هذه الأسئلة، قام فيندورف وفريقه بإجراء سلسلة من التجارب الحقلية، حيث قاموا بجمع عينات رسوبية من نمطين مختلفين للبيئات في دلتا ميكونغ في كمبوديا: أراضٍ رطبة فصلية حيث تكون التربة مشبعة بمياه الأمطار خلال جزء من العام فقط، وأراضٍ رطبة دائمة تكون مغمورة بشكل مستمر. وتم التركيز على الأراضي الرطبة لأنها الأكثر انتشاراً في "كمبوديا" و"فييتنام" والمناطق الملوثة بالزرنيخ.
إنَ مزج الرسوبيات التي تم جمعها من أعماق مختلفة ضمن قوارير مع مياه جوفية صُنعية أظهر أنَ البكتيريا المحرومة من الأكسجين والتي تعيش في الجزء العلوي من الأراضي الرطبة الدائمة كانت تطرح الزرنيخ. مع ذلك، فإن المياه الممزوجة مع رسوبيات تم جمعها من نفس الطبقات الضحلة من الأراضي الرطبة الفصلية (المؤقتة) كانت خالية من الزرنيخ.
افترض علماء ستانفورد أن البكتيريا التي تعيش في الطبقات الضحلة من الأراضي الرطبة الفصلية كانت تتغذى على المواد النباتية القابلة للهضم وتستنفذها بالكامل خلال فترة الجفاف حين تكون الرسوبيات معرضة للهواء والميكروبات قادرة على الوصول إلى الأوكسجين. وكنتيجة لذلك، لا يتبقى غذاء للميكروبات عند عودة الفيضان، مما يتركها عاجزة عن فصل جزيئات الزرنيخ عن أكاسيد الحديد.
وقد تم تأكيد هذه الفرضية عندما قام العلماء بإضافة الغلوكوز (سكر غني بالكربون وسهل الهضم) الى القوارير الحاوية على العينات المأخوذة من الاراضي الرطبة المؤقتة، حيث بدأت الميكروبات عندها بطرح الزرنيخ. أي أن البكتيريا المسؤولة عن طرح الزرنيخ لا تعود قادرة على طرحه عند عدم توفر ما يكفي من الكربون.
عند إعادة نفس التجربة على عينات مأخوذة من عمق حوالي 100 قدم (حوالي 30 م) ، وهو عمق معظم آبار الشرب في آسيا، تبين أن البكتيريا التي تعيش عميقا تحت الأراضي الرطبة، سواء الدائمة منها أو الفصلية، تكون محدودة أيضاً ولا تستطيع طرح الزرنيخ في المياه الجوفية في الشروط الطبيعية. إن التتبع الدقيق مكَن العلماء من تحديد المسؤول عن طرح الزرنيخ، ألا وهي البكتيريا الموجودة في الأراضي دائمة الرطوبة.
"سكوت فيندورف" (بالقميص الأبيض) يقف مع أعضاء فريقه فوق أرض رطبة فصلية تم حفرها وغمرها بالمياه لمحاكاة بيئة الأراضي دائمة الرطوبة
أثر تطوير الأراضي:
يقترح البحث بأن الميكروبات الموجودة في الأراضي الرطبة الفصلية لا تشكل، في الظروف الطبيعية، تهديداً كبيراً بإضافة الزرنيخ إلى المياه الجوفية. إلا أن العلماء يتساءلون عما يمكن أن يحدث إذا تغيرت هذه الشروط، الأمر الذي يمكن أن يحصل عند تطوير تلك الأراضي لأغراض أخرى.
وللإجابة على هذا السؤال، أجرى الفريق تجربة من نوع آخر، حيث قاموا بإجراء محاكاة لتحول إحدى الأراضي الرطبة الفصلية الصغيرة إلى أرض رطبة دائمة، وذلك بحفر قطعة أرض رطبة فصلية صغيرة ومعزولة مكانياً، وملئها بالمياه بشكل دائم. وكما كان متوقعاً، أدى ذلك إلى طرح الزرنيخ. (يقول فيندروف بأن الكمية المطروحة كانت صغيرة وعابرة وبالتالي فإن التجربة التي أجراها، بحد ذاتها، لا تشكل تهديداً على السكان)
إن لهذه النتائج آثاراً واسعة النطاق على التنبؤ بتغير تراكيز الزرنيخ مع تطوير الاراضي في جنوب وجنوب شرق آسيا وعلى دورة الكربون الأرضي. فإذا قمت بتغيير الهيدرولوجيا في منطقة ما من خلال بناء سدود او منشآت أخرى من شأنها تغيير مجرى المياه، أو إذا قمت بتغيير الأساليب الزراعية وإدخال الأوكسجين أو النترات إلى رسوبيات في أماكن لم تكن موجودة فيها من قبل، فإن ذلك سيؤثر بالتأكيد على معدلات طرح الزرنيخ.
المصدر:
ورقة البحث:
Jason W. Stuckey et al. Arsenic release metabolically limited to permanently water-saturated soil in Mekong Delta، Nature Geoscience (2015).
ترجمة: مهند أدهم