البيولوجيا والتطوّر > الأحياء الدقيقة
طريقةٌ جديدةٌ للتهجين بين الخمائر تعدُ بنواتجَ تخمّر جديدة!
يُحكى أنّه منذ سنواتٍ عديدةٍ مضت، وَجدَ رجلٌ جرَّةً مُغلقةً تحوي فواكه ونحلة عسلٍ، قادَه فضولُه إلى تذوَّق محتوى الجرَّةِ، فشعرَ بطعمٍ جديدٍ وغريبٍ في آنٍ معاً، وبعد أن أجهز على المشروب بداخلها، أحسَّ بدوارٍ في رأسه، وأطلق ضحكةً عاليةً وهو يشعر بطاقةٍ كبيرةٍ تدخل جسدَه. لكنَّ الأمرَ كان في غايةِ السوء في اليوم التالي؛ إحساسٌ مريعٌ! ألمٌ في الرأس، ودوارٌ، وطعمٌ مزعجٌ في الفم. لقد كان ذلك الرجل أوّلَ من اختبرَ الدوار الذي يعقب تناول الخمر!
قد تظنون أنّ هذه مجرّد حكايةٍ لا أساس لها من الصحّة، ولكنَّ العديد من الحفريات الأثرية قد كشفت عن وجود جرارٍ تحوي بداخلها بقايا خمرٍ يرجع تاريخُها إلى 7000 عامٍ مضى، ومن المُرجَّح جداً أنَّ الإنسان قد اكتشف المشروباتِ الكحوليةِ بمحضِ الصدفة!
بدأت حضاراتٌ مختلفةٌ على مدار التاريخ البشري، عبر التجربة والخطأ والملاحظة الدقيقة، بإنتاج المشروباتِ المخمّرة. وقد أدرك البشرُ مع مرور الوقت أنّ ترْكَ الفواكه والحبوب في أوانٍ مغلقة لفترةٍ طويلةٍ من الزمن، يُنتِجُ الخمر والجعة. ولكن أحداً لم يكن يعلمُ الآليةَ التي يحدث بها ذلك، تلك التي نُطلقُ عليها اليومَ اسمَ "التخمُّر Fermentation".
لقد اقتصرت معرفةُ البشر آنذاك على كونِ عمليةِ تشكُّلِ الكحولِ على صلةٍ بالزمنِ؛ فإذا لم يُترك مزيجُ الفواكهِ لمدةٍ كافيةٍ فلن يَنتُجَ الكحولُ، وإذا تُرِكَ لفترةٍ أكثرَ من اللازم فسيفسدُ المزيجُ ويصبحُ الناتجُ غيرَ صالحٍ للشرب، إذ لم يكن السببُ وراء حدوثِ هذا التحوّل ـ والذي بتنا نعرف جيداً اليوم أنّه الخمائر yeasts ـ معروفاً. مع تطوّر المجاهر والدراسات المتعاقبة التي جرت لفهم هذه العملية، توصّل العلماء إلى أنّ الجنود المجهولة هذه لم تكن سوى خلايا الخميرة؛ تلك الكائنات الحية الدقيقة التي يعود تصنيفها إلى مملكة الفطريات (شعبة الفطريات الزِّقية تحديداً Ascomycota)، أمّا أهميتُها فتكمنُ في دورها البارز في عمليات التخمّر والتي يتم فيها تحويل السكرياتِ إلى كحولٍ وغاز ثاني أكسيد الكربون بشكلٍ أساسيّ. للمزيد عن الأغذية المخمّرة وأهميتها في حياة الإنسان، يُمكنكم قراءة مقالنا السابق هنا.
تنتشرُ المئاتُ من الأنواعِ المعروفةِ من الخمائرِ حول العالم وتحتلّ كلَّ ركنٍ من البيئة تقريباً. حسنٌ، وماذا يعني ذلك؟ فالبكتريا أيضاً موجودة في كلّ مكان! دعونا أولاً أنْ لا ننتقصَ من قيمةِ الخمائر في حياتنا اليومية، فأهميتُها لا تقتصرُ على استخداماتها الواسعة في صناعة الخبز والألبان والأجبان والبيرة والنبيذ وصلصة الصويا وغير ذلك من الأغذية والمشروبات المُتخمِّرة فحسب، بل تتعدّى ذلك إلى إنتاجِ الإنزيماتِ والمُنكِّهاتِ والموادِ الملونة والوقود الحيوي وحتى العقاقير الطبية كالأنسولين.
خمسمئةُ سنةٍ مضت منذ أن حدث التهجين العَرَضي الأوّل في الطبيعة بين خميرة الخبز ـ وهي التسمية الشائعة لها، أمّا اسمها العلمي فهو: Saccharomyces cerevisiae - مع أحد أقاربها البعيدة من الخمائر ـ أي المختلفين عنها وراثياً بحيث لا يمكن حدوث تزاوجٍ بينهما في الحالة الطبيعية. فكانت نتيجةُ هذا التهجين ولادةُ الجعة الفاتحة Lager Beer؛ المشروبُ الأكثرُ استهلاكاً حول العالم والذي يدرُّ على المعامل أرباحاً سنويةً تتجاوز 250 مليارَ دولارٍ.
إنّ حدوث تهجينٍ من هذا النوع في الطبيعة يُعدُّ أمراً سارّاً، بل وربما حدثاً يستدعي الاحتفال به لا سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار القيمة الاقتصادية العالية للمنتجات المَديْنةِ بوجودها لهذا التهجين!
الخبرُ السيء هو أنّ احتمالَ حدوث هذا الأمر في الطبيعة نادرٌ جداً ونسبته لا تتعدى واحداً بالمليار؛ مما قد يعني أنّه علينا أن نبقى خمسمئة سنةٍ أخرى بانتظار حدوث معجزةٍ مشابهةٍ. أمّا الخبر الجيد فهو أنّ لا شيء يعدّ مستحيلاً إذا تدخَّلَت الهندسة الوراثية وبلمسةٍ سحريةٍ من البلاسميد البكتيري (هو DNA حلقي مضاعف السلسلة يتضاعف بمعزلٍ عن DNA الخلية. يوجد بشكلٍ خاص في الخلايا البكتيرية ويُستَخدَم في الهندسة الوراثية على نطاقٍ واسعٍ لنقل المورثاتِ بين الخلايا) أصبح التهجين بين الأنواع ممكناً، بل يسيراً أيضاً، فحدوثُ التهجين بنسبةِ واحدٍ بالألف والتي تمكّن ويليام أليكساندرWilliam Alexander ، المُؤلّف الرئيسي لدراسةٍ جديدةٍ نُشرت في مجلة Fungal Genetics and Biology، من تحقيقها في المختبر تُعدُّ مُبشِّرةً إذا ما قورنت بسابقتها (واحدٍ بالمليار)!
فما هي هذه الوصفة السحرية التي أُنجِزت في مخابر جامعة ويسكونسن- ماديسون University of Wisconsin-Madison في ولاية ويسكونسن الأمريكية؟
في الحقيقة، سهّلّ استخدام البلاسميدات البكتيرية حدوثَ التهجين بين الأنواع المتباعدة وراثياً من الخمائر؛ حيث تعبّر مورثاتٌ بلاسميدية عن نفسها على شكل بروتينات توجد في الخمائر في الحالة الطبيعية وتسمحُ بحدوثِ التزاوج بين الأنواع المتباعدة وراثياً. ويُمكن بعد انتهاء التهجين استخراجُ البلاسميدات المستخدمة من النوع الهجين دون أن يؤثرَ ذلك على جينوم الكائن الهجين.
قد يتساءلُ معظمنا الآن عن جدوى هذا التهجين، وربما يذهب البعض إلى التساؤل عن السبب الذي يجعل الباحثين يرهقون أنفسهم بمثل هذه الأبحاث التي لا ندرك في البداية أهميتها الحقيقية، ويأتي الجواب على لسان البروفيسور كريس تود هيتينغر Chris Todd Hittinger كبير مُعدِّيّ الدراسة؛ إذ يرى أنّ الحصول على هجائن جديدة من الخمائر بهذه السرعة والفاعلية سيتيح للصناعات المعتمدة على الخمائر اختبارَ عددٍ أكبر من الكائنات للحصول على نكهات جديدة، وزيادة الإنتاج، والتوصّل إلى منتجاتٍ جديدةٍ كُليَّاً.
على سبيل المثال: التهجين بين نوع الخميرة Saccharomyces cerevisiae وأحد أقاربه البعيدة Saccharomyces eubayanus يؤدي إلى إنتاج نوعٍ جديدٍ من الخميرة، والذي يسمح بجعل التخمّر الذي تنتج عنه البيرة الفاتحة ممكناً في درجاتِ حرارةٍ منخفضة وذلك لأنّ معدّل درجات الحرارة في باتاغونيا (الموئل الطبيعي للنوع S.eubayanus ) هو ستُّ درجاتٍ مئويةٍ؛ أي أنّ هذا النوع يمتلك مورثاتٍ مُقاوِمةٍ للبرودة مما يجعله ذا قيمةٍ عاليةٍ في المُخمّراتِ التي تعتمد على درجات الحرارة المنخفضة. ويضيف البروفيسور هيتينغر أنّه قد أصبح بالإمكان الحصول على عددٍ كبيرٍ من الهجائن الجديدة كليّاً بين أيّ نوعين من الخمائر في غضون أسبوعٍ واحد فقط.
هذه التقنية الجديدة قد تساعد المصانع في تجاوز عقبةٍ كبيرة تتمثل في كون العديد من السلالات المستخدمة صناعياً عقيمةً؛ أي غيرَ قادرةٍ على تشكيل الأبواغ، وهي أجسام تكاثرية صغيرة وحيدة الخلية غالباً، مقاومة للعديد من الظروف البيئية، وقادرة على النمو إلى كائنٍ حيّ جديد في الظروف البيئية المناسبة، تُنتجها عادةً أنواعٌ محددةٌ من الفطريات والبكتريا والطحالب ووحيدات الخلية الحيوانية.
إذاً، فقد كسرت هذه التقنية حاجز التزاوج بين الأنواع، وبات من اليسير إجراء تهجينٍ بين سلالةٍ مرغوبة وأخرى بريّة والتمتع بإمكانيات تصنيع هائلة كثمارٍ لهذا التهجين.
المصادر:
البحث الأصلي: هنا