الفلسفة وعلم الاجتماع > أعلام ومفكرون
ميشال فوكو..المُفكر الإنسان
ميشال فوكو (1926-1984م)
يَصعبُ تصنيفُ (ميشال فوكو) على أنه فيلسوفٌ وحسْب؛ فقد شمَلَ نِتاجُه الفكريُّ مجالاتٍ تَطالُ التاريخَ وعلمَ النفسِ وعلمَ الاجتماع، إلى جانبِ أنه كان شغوفًا بالأدبِ والسياسة. شَغَل فوكو عددًا من المناصبِ المرموقةِ في جامعاتِ فرنسا، لعلّ أحدَ أهمِّها كونُه بروفيسورَ تاريخِ نظامِ الفكرِ في (كوليج دو فرانس Collège de France)، كما أنه حاضَرَ خارجَ فرنسا، في جامعاتٍ كجامعةِ كاليفورنيا وجامعةِ تونس. وإلى جانبِ مهنةِ فوكو الأكاديمية، فقد كان أيضًا ناشطًا في مجالاتٍ عِدَّة؛ كمُناصرةِ حقوقِ المِثْليِّين، وتحسينِ أوضاعِ المساجين. يتناولُ هذا المقالُ فكرَه، وشرحًا موجَزًا لأهمِّ المفاهيمِ التي تناولَها، إضافةً إلى أهمِّ أعمالِه، وبعضٍ من مقولاته.
لطالما عُنِيَت الفلسفةُ منذ بدايةِ نشأتِها باستجوابِ معارفِ العصرِ المُسلَّمِ بها. قام (لوك) و(هيوم)، و(كانط) على وجه التحديد؛ بتطويرِ مفهومِ الفلسفةِ لاحقًا؛ نقدًا للمعرفة. لقد كان إسهامُ كانط المعرفيُّ الأكبرُ هو فكرتَه أنَّ النقدَ ذاتَه الذي يكشِفُ عن حدودِ قدراتِنا المعرفية، يمكنُ له أيضًا أنْ يكشِفَ عن الشروطِ الضروريةِ لممارسةِ هذه القدرات. وبذلك، فإنَّ ما قد تبدو صفاتٍ عَرَضيّةً للمعرفةِ البشرية، أصبحتْ حقائقَ ضرورية. من ناحيةٍ أخرى، فإنَّ فوكو قام بقلبِ فكرِ كانط؛ فبدلًا من السؤالِ عمّا قد يكون ضروريًّا بالفعل، في ما يبدو عَرَضيًّا، فإن فوكو يقترحُ أنْ نبحثَ عمّا قد يكون عَرَضيًّا في ما يبدو لنا ضروريًّا. يَنْصَبُّ بحثُه هذا في مجالِ العلومِ الإنسانيّة، والتي تزعمُ أنها تقدّمُ حقائقَ عالميّةً مدروسةً عن الطبيعةِ البشرية، فيما أنها في الحقيقةِ تجسيداتٌ للاتجاهاتِ الأخلاقيةِ والسياسيةِ المرتبطةِ بمجتمعٍ مُعيّن. تقومُ (الفلسفةُ النقديةُ) الخاصةُ بفوكو بدحضِ هذه الادِّعاءات؛ من خلالِ توضيحِ أنّ العلومَ الإنسانيةَ –كما قال- هي نِتاجُ ظروفٍ وقوًى تاريخيةٍ متغيّرةٍ غيرِ مستندةٍ إلى حقائقَ علميّةٍ ثابتة.
• مفاهيمُ أساسيةٌ في فكرِ فوكو:
1- الانضباط:
هو أحدُ آليّاتِ القوَّة، ويقومُ بتنظيمِ سلوكِ الأفرادِ في المجتمع؛ وذلك من خلالِ ضبطِ المجالِ المكانيِّ، والوقتِ، ونشاطِ الأفراد. كما تساعدُ أنظمةٌ معقدةٌ؛ كالرَّقابة، على تعزيزِ الانضباط. يُميِّزُ فوكو بين الانضباطِ والقوَّة؛ إذْ يرى الانضباطَ مجردَ وسيلةٍ من وسائلِ ممارسةِ القوَّة. بالإضافة إلى ذلك، يُطلِقُ فوكو عبارة (المجتمع الانضباطيّ) على المؤسساتِ التي تمارسُ الضبط؛ كالمشفى والمدرسةِ والسجن.
2- المعرفة-القوة:
تُعدُّ هذه الصلةُ من أهمِّ خصائصِ فكرِ فوكو، ويعني بها أنَّ آلياتِ القوَّةِ تُنتِجُ أنواعًا مختلفةً من المعرفة، والتي تُقدِّمُ بدورِها معلوماتٍ عن نشاطِ الأشخاص. إنّ معلوماتِ المجموعةِ بهذا الشكلِ تُسهِمُ في ترسيخِ ممارسةِ القوَّة، وعلى عكس الرأيِ الشائع بأن (المعرفةَ قوَّة)، يرفض فوكو مساواةَ الاثنين، بينما يهتمُّ بدراسةِ العلاقاتِ المتشابكةَ بينهما.
3- الحقيقة:
الحقيقةُ هي أيضًا موضوعٌ جوهريٌّ في أعمالِ فوكو، وخصوصًا في سِياقِ علاقتِها بالقوَّةِ، والمعرفةِ، والفرد. يرى فوكو أنَّ الحقيقةَ هي حدثٌ تاريخيّ، تُحْدِثُه تِقْنياتٌ مختلفة، أكثرَ من كونِه شيئًا موجودًا مُسبقًا بانتظارِ أن يُكتشَف. يُنبِّه فوكو على أنَّ (أثرَ الحقيقةِ) الذي يريدُ أن يُقدّمَه؛ يتجسّدُ في «إظهارِ أنَّ الحقيقةَ جدليّة». كما أنَّ فوكو يؤكِّدُ أنه غيرُ مهتمٍّ بـ(سردِ الحقيقةِ) في كتاباتِه، بل بالأحرى، إنه يناشدُ الناسَ أن يعيشوا تجربةً معينةً بأنفسِهم.
4- (البَانُوبْتِيكُون) والرَّقابةُ المركزيَّة:
البانوبْتيكون هو عبارةٌ عن تصميمٍ للسجن، وضعهُ (جيرمي بينثام) في نهايةِ القرنِ الثامنَ عشَر. يقومُ البانوبْتيكون على توزيعِ الزِّنزاناتِ حولَ برجِ مراقبةٍ مركزيّ. وبالرغمِ من أنَّه لمْ يتمَّ بناءُ هذا السجن، فقد تمّ توظيفُ فكرتِه بوصفِها نموذجًا للكثيرِ من المؤسسات، بما فيها السجون. يستخدم فوكو البانوبْتيكون استعارةً لوصفِ طريقةِ عملِ القوَّةِ والرَّقابةِ في المجتمعِ المعاصر.
• أعمالُه:
لقد كان فكرُ فوكو ذا علاقةٍ وطيدةٍ بالحركةِ البِنْيَوِيَّةِ وما بعدَ البِنْيَوِيَّة، فقد كان يَدْرُسُ في أعمالِه اختلافَ بُنيةِ المجتمعِ المعاصرِ عن المجتمعاتِ السابقة، موضِّحًا المخاطرَ الكامنةَ في إصلاحاتِ عصرِ التنوير، التي قامتْ لمحوِ بربريَّةِ الحِقَبِ السابقة (إلغاءِ الزِّنزانة، تحديثِ الطبّ، تأسيسِ الجامعاتِ العامة... إلخ). كما يشيرُ فوكو إلى أنّ كلَّ مرحلةٍ من الحداثةِ تنبثقُ عنها تداعياتٌ مُقلقةٌ حِيَالَ قوَّةِ الفردِ وسلطةِ الحكومة.
• فوكو بعدَ وفاتِه:
قبلَ وفاتِه بمرضِ الإيدز عام 1984م، تركَ فوكو تعليماتٍ واضحةً أنهُ لا يسمحُ بأن تُطبَعَ أعمالٌ جديدةٌ لهُ بعدَ موتِهِ ما لمْ تكن قد طُبعتْ خلالَ حياتِه. وقد تمّ تطبيقُ هذهِ الوصيةِ معَ تعديلٍ جوهريّ؛ حيثُ عُدَّت المحاضراتُ التي سَمَحَ فوكو بتسجيلِها موادَّ قابلةً للنشر؛ فأتاحَ ذلكَ ظهورَ نُسَخٍ مطبوعةٍ مِن محاضراتِهِ السنويةِ التي ألْقاها في (كوليج دي فرانس)؛ ممّا سَمَحَ لكمٍّ هائلٍ من الموادِّ الجديدةِ والمهمَّةِ أن ترى النور.
• أبرزُ كتبِه:
- المرضُ العقليُّ وعلمُ النفس.
- تاريخُ الجنونِ في العصرِ الكلاسيكيّ (1961م).
- وِلادةُ العيادة (1963م).
- الكلماتُ والأشياء (1966م).
- حفريَّاتُ المعرفة (1969م).
- نظامُ الخِطَاب (1971م).
- المراقبةُ والمعاقبة (1975).
- تاريخُ الجنسانيَّة، في ثلاثةِ أجزاء (1984م).
• اقتباساتٌ مختارة:
«إنَّ الانضباطَ (يصنعُ) الأفراد، وهو بذاتِه تِقْنيةُ القوَّةِ التي تَعُدُّ الأفرادَ هدفَ وأداةَ وجودِه في آنٍ واحد. ليس الانضباطُ بقوَّةٍ غالبة، بل هو قوَّةٌ متواضعةٌ مفعَمةٌ بالشكّ، تعملُ بوصفها تدبيرًا مدروسًا ودائمًا في آنٍ واحد».
[المراقبةُ والمعاقبة].
«حيثُما هنالك قوَّة، فهنالك مقاومة».
[تاريخُ الجنسانية، المجلد الأول].
«أيُّ رغبةٍ تلك التي من الممكنِ أن تناقضَ الطبيعة، بما أنَّ الطبيعةَ هي التي وهبتْها للإنسان؟!»
[تاريخُ الجنونِ في العصرِ الكلاسيكيّ].
«إنَّ مهمَّةَ الطبيبِ الأولى هيَ... ذاتُ طابعٍ سياسيّ؛ فالنضالُ ضدَّ المرضِ ينبغي أنْ يبدأَ بشنِّ حربٍ ضدَّ الحكومةِ الفاسدة». «إنَّ شفاءَ الإنسانِ الحتميَّ والكليَّ مَنُوطٌ بتحرُّرِهِ أوّلًا».
[وِلادةُ العيادة].
المصادر: