التاريخ وعلم الآثار > حقائق تاريخية
إصلَاحَات أورُوكَاجِينَا وأوَّل ظُهُور لِكَلِمَة "حُريَّة" فِي التَارِيخ
الشِعَار الذي لطَالما قضَّ مَضاجِعَ المُلُوك وهزَّ عُروشَهُم، وأرعَبَ حَاشِيةَ البلَاط وأسقَطَ نُفُوذَهُم. الشِعَار الذي صَدحَت بهِ حَناجِرُ البشريَّةِ في أيّ مَكَانٍ وُجِدَ فيهِ الظلم، قَهرُ الفُقرَاءِ وتسلّط الكَهنَة الجَشِعِين. ألا وهوَ شِعَارُ "الحريَّة". لكِن مَتى وأين ظَهَر مفهُوم "الحريَّة" لأوّلِ مرّة في تاريخِ الإنسانيَّة؟ للتعرف على ذلك تابعوا معنا المقال التالي...
الشكل (1): كلمة "أماجي" أوّل مفهوم لكلمة "حرية" في التاريخ
إلى الشمال الغربي من ملتقى نهري دجلة والفرات في جنوب العراق، كانت تقع مدينة لكش، التي استوطنها وبناها السومريون، أحد أقدم الشعوب التي بَنت الحضارة الأولى في التاريخ. في حوالي عام 2360 ق.م كانت هذه المدينة ترضخ لحكم الملك السومري لوغال أندا الذي تم تنصيبهُ من خلال كهنة المعبد ذوي النفوذ العالي. كان هذا الحاكم ظالماً لشعبهِ، داعماً للأغنياء في تسلطهم على الفقراء، زادَ نفوذَ البطانة الفاسدة لحكمه فذاقَ شعب سومر الفقر والاستغلال خلالَ عهدِ حكمهِ الفاسِد.
بعد ستةِ سنواتٍ من حكمِ لوغال أندا، حدثَ انقلاب قاده شخص يدعى "أوروكاجينا"، أطاح برأسِ السلطة، وبما أن الوثائقَ الموجودة لدينا تُعلِمُنا بأن ابن الحاكم المخلوع لوغال أندا بقي على قيد الحياة بعد الانقلاب، فهذا يعني أن الانقلاب لَم يَكُن دَموياً، وهذا بحد ذاتهِ خَارِقٌ للعادات السياسية في ذَلكَ الوقت. عند استيلاء أوروكاجينا على السلطة، أعلنَ أنه وصل للحكم بمساعدةِ الشعبِ والكهنة. حيثُ دائماً ما كانَ للكهنةِ في لكش الدور الفعّال في تحديدِ الحاكم، لكنّهم سيندمونَ على قرارهم اختيارَ أوروكاجينا في القريبِ العاجل.
سُرعانَ ما شَرَّعَ أوروكاجينا مجموعةً كاسحةً من القوانينِ التي تضمَّن حقوق أصحابِ الملكيةِ، وإصلاح الإدارة المدنية والإصلاحات الأخلاقية والاجتماعية والقضائية. حيث حضر أوروكاجينا السلطات المدنية والدينية على حد سواء من الاستيلاء على الأراضي والسِلع للمتخلفين عن دفع الديون، وأنهى تدخل الدولة في مسائل مثل إجراءات الطلاق وصنع العطور.
كما أقال العديد من المسؤولين الفاسدين، وصادر العقارات التي استولى عليها الحاكم المخلوع ووضعها تحت اختصاص الآلهة (أي المعابد). كما أقال العديد من موظفي المحاكم، بما في ذلك المشرفين على ضرائب الحبوب. طرَد الكَهنة المُرتَشين ومشرفي المعبد الذين تقاسموا عائِدات الضرائِب مع الحاكم المخلوع. ووضعَ قيود على المبالغ التي يجمعُها الكهنة في الشعائر الدينية ورسوم دفن الموتى. ألغى ديون العبوديّة وأعلن العفو العام لمواطني لكش. كما قدَّم الصدقات للفقراء والمسنين. ادعى أوروكاجينا أن كل هذه الإجراءات موجّهة له من قِبل الآلهة، ربما لكي يمنحها القوة اللازمة لكي تصبح واقعاً.
دُوّنَت جميعُ هذهِ الاصلاحات بعناية على المخاريط المعروفة بـ "مخاريط الحرية" حيث تُعدَ هذه الاصلاحات الوثيقة الأولى في التاريخ التي حددت الحقوق القانونية للمواطنين. في وثيقة الاصلاحات هذه ذُكر أول مفهوم للحرية في التاريخ وهي كلمة "أماجي" والتي تعني حرفياً "العودة للأم". هذا المصطلح كان يُستَخدَم في وقت مبكر في بلاد ما بين النهرين، للإشارة إلى تحرر الشخص من الدَين. حيث استخدم الملوك المديونية عن الضرائب كوسيلة للسيطرة على الناس لخدمة الملك. اعفاء شخص من الدَين تَعني أنَّه أصبَح حُرّاً وقادِراً على العودة لمنزلهِ.
الشكل (2): "مخاريط الحرية" الوثيقة الأولى في التاريخ التي حددت الحقوق القانونية للمواطنين
بعض المؤرخين يعمدون إلى تصوير أوروكاجينا كقائد لثورة شعبية للأحرار ضد الأرستقراطية وملّاك الأراضي الأثرياء. لكن إصلاحات أوروكاجينا لم تكن عميقة لهذا الحد. حيث كانت مجرد محاولة لتصحيح الاستخدام السيئ للسلطة، ولم يكن يحاول أن يقلب الهياكل الأساسية للمجتمع. مؤرخون آخرون يؤكدون دوره في انتقال السومريين من "إقتصاد المعبد" إلى مجتمع علماني أكثر حداثة مبني على أساس السلطة الحاكمة، حيث كانت المعابد سابقاً هي المراكز الإدارية للحكومة. ومع هذا فإن أوروكاجينا لم يكن ثورياً معادياً للدين. حيث قدّم العقارات التي صُودِرَت من الحاكم السابق إلى المعابد.
لم يكن تطبيق الاصلاحات هو مشكلة أوروكاجينا الوحيدة، فخلف حدود لكش كان يقف عدو يتربَّص بأوروكاجينا الفرص ويحلم باليوم الذي تقع فيه لكش تحت سلطانه، ألا وهو لوغال زاغيسي حاكم مدينة أوما التي اشتهرت بعدائها الدموي لمدينة لكش. حيث تعرّضت لكش لثلاثِ هجماتٍ عسكريةٍ على الأقل في ظرف سبع سنوات، وهذا عدد كبير حتى بالنسبة للأعراف الحربية في المدن السومرية القديمة.
حاول أوروكاجينا التركيز على الإصلاحات الاجتماعية، ولم يكن مهتماً في الحروب الخارجية أو الحروب الأهلية السومرية. ومع ذلك، وعلى الرغم من أن الإصلاحات الاجتماعية كانت الشغل الشاغل لأوروكاجينا، إلّا أنَّه قضى معظَم وقته في صدّ الهجمات عن مملكته.
عمدَ الغُزاة إلى تَجويعِ لكش من خلال مُحاصَرَتِها وقطع الإمدادات عنها. ويبدو أن الوضع الداخلي للمدينة لم يكن مساعداً لأوروكاجينا. حيث تسببت الاصلاحات بانزعاج الطبقة الغنية، التي استاءت للغاية من تخفيض امتيازاتهم المالكة. وعلى مرّ العصور، كانت الطبقة الأرستقراطية طبقة عسكرية، بررت نمط حياتها المتميز من خلال قدرتها على جلب جيوش مؤلفة من الفلاحين إلى ساحة المعركة عندما يستدعيها الملك. وقد عانى العديد من الملوك في التاريخ من مأساة السقوط بعد كسب عداوة الأرستقراطية. ولم يكن أوروكاجينا استثناء. الآن، عندما كان في أشد الحاجة إلى المساعدة، لم يكن قادراً على الاعتماد على الأسياد والنبلاء. من المحتمل أنهم دافعوا عن لكش لكن بشكل فاتر في أحسن الأحوال، أو أنهم رفضوا ان يدافعوا عنها نهائياً، أوانهم بدّلوا مواقفهم بشيء بسيط من الرشاوي والإغراءات. يصطف معهم الكهنة الذين لم يكونوا سعيدين لإصلاحات أوروكاجينا التي حدَّت من نفوذهم المالي والسياسي.
كل ما سبق قد ثبت بسبب حقيقة أن الأوميين انتصروا على أوروكاجينا وأسقطوا لكش، الأمر الذي لم يحصل طيلة مئة عام من الصراع بين المملكتين والتي كانت لكش دائماً المنتصرة فيها. ودخل لوغال زاغيسي إلى المدينة لينتقم لكلّ تلك الهزائم المخزية التي منيَ بها شعبه على يدّ لكش على مدى التاريخ، فقام بنهب المعابد بوحشية لا مثيل لها اذهلت السكان.
الشكل (3): رسالة من رئيس الكهنة لو-اينا موجهة إلى ملك لكش "أوروكاجينا" يبلّغه فيها بأن ابنه قد قُتِلَ في القتال.
نجا أوروكاجينا من سقوط لكش وانتقلت العاصمة إلى مدينة مجاورة أصغر تُدعَى جيرسو. وكان لا يزال ملكاً، ولكن تم اسقاط مساحة كبيرة من مملكته. لاحقَ لوغال زاغيسي الحاكم المنكوب إلى جيرسو وحاصر المدينة مرتين. وبعد ذلك بفترة قصيرة، يختفي أوروكاجينا فجأةً من السجل التاريخي!
حتى يومنا هذا لا نعرف على وجه اليقين كيف ماتَ الملك، ولكن الاحتمالات لا حصر لها. ربّما ماتَ لأسبابٍ طبيعيةٍ، ربما أُلقِيَ القبضَ عليهِ وأُعدِم، أو فضّلَ الانتحارَ على أن يقعَ أسيراً بيَدِ الأعداءِ. لكن لا مانِع مِن أن نُطلِق العنان لخيالنا ونأملَ أنه توفيَّ في القِتال، وهو يَقود آخر معركَة بطوليَّة مِن أجلِ الدفاعِ عن مملكتهِ، ورُؤيتِهِ لعالمٍ أفضَل.
المراجع:
1- هنا
2- هنا
3- هنا