التاريخ وعلم الآثار > حقائق تاريخية
الحشاشون... 2- الحشاشون في سورية
يمكنك قراءة الجزء الأول من المقال من هنا وفي الجزء هذا تتمة القصة...
فيما كان حسن الصباح مازال يحكم ألموت، قامت ثلةٌ صغيرةٌ من أتباعه برحلةٍ طويلةٍ وخطيرة في أراضي العدو جهة الغرب. وكانت سورية هي وجهتهم، وكان غرضهم من ذلك هو نقل دعوتهم إلى خلافة نزار الفاطمية، إضافةً إلى توسيع نطاق المواجهة مع عدوتهم الدولة السلجوقية.
كانت سورية في ذلك الوقت محكومةً من قبل قائدين سلجوقيين متنافسين هما "رضوان" و "دوقاق" حاكما المدينتين حلب ودمشق. وقد كانت المنطقة مضطربةً بدخول القوى الصليبية الأجنبية وسيطرتها على اديسا وانطاكية وطرابلس والقدس، أما الدولة الفاطمية في القاهرة فكانت شعبيتها قد بدأت بالانخفاض بسبب عجزها عن مقاومة الخطر الصليبي.
وسط هذا البيئة السياسية غير المستقرة، قسم المؤرخون محاولات الحشاشين لإقامة كيانٍ لهم في سورية إلى ثلاث مراحل. تبدأ المرحلة الأولى من عام 1103م وتنهي 1113م، تمكن الحشاشون خلالها من العمل بنجاحٍ داخل حلب ودمشق برضا حاكمي المدينتين، و في حلب على وجه الخصوص، و قد بني هذا التحالف الغريب بين الحشاشين والحاكمين السلجوقيين على المصلحة المشتركة بينهما، فقد استفاد الحشاشون من الملاذات الآمنة التي وفرها لهم الحاكمين السلجوقيين في حلب ودمشق، في حين استفاد حكام المدينتين من اغتيالات الحشاشين الموجهة ضد أعداء السلاجقة.
تبدأ قصة الاغتيالات عندما قام الحشاشون عام 1103 باغتيال جناح الدولة الحاكم لمدينة حمص في المسجد الجامع أثناء تأدية صلاة الجمعة، وقد تسبب ذلك الاغتيال الدامي بهجرة معظم الأتراك من حمص إلى دمشق، إضافةً إلى قيام الحشاشين باغتيال الأمير السلجوقي مودود حاكم الموصل و ذلك عند زيارته لدمشق. يذكر أن كلا الحاكمين كانا عدوين لدودين لرضوان حاكم حلب.
في ال 10 من ديسمبر 1113م توفي رضوان حاكم حلب الذي كان الدرع الحامي للحشاشين في المدينة، وتولى الحكم بعده ابنه ألب أرسلان الذي تلقى رسالةً من السلطان السلجوقي يحثه فيها على اتخاذ تصرفٍ عسكريٍ فوريٍ ضد الحشاشين، فقام أرسلان الحاكم الجديد بتحريضٍ من ابن البديع قائد شرطة المدينة حينها بمهاجمة الحشاشين وأتباعهم على حين غرة، فقتلوا زعماءهم واعتقلوا 200 آخرين منهم، فتم تنفيذ حكم الإعدام ببعضهم وأطلق سراح البعض الآخر إثر تلقي شفاعاتٍ لهم، في حين فر البقية من المدينة لتنتهي بذلك المرحلة الأولى لكفاح الحشاشين في سورية.
لم ينس الحشاشون ما حصل لأتباعهم في حلب، فتمكنوا عام 1119 من اغتيال ابن البديع هو وابنيه عندما فروا من المدينة، إلا أن نفوذهم لم يعد الى المدينة بعدها. و بدأت بذلك المرحلة الثانية للحشاشين والتي استمرت من العام 1113م إلى العام 1130م، حيث قاموا ببسط نفوذهم في مدينة دمشق، مرتكزين بذلك على الدعم المحلي من حاكم مدينة دمشق حينها ظاهر الدين طغتكين. كان التعاون بين الاثنين مبنياً على الهدف المشترك في مواجهة القوة الصليبية. فسمح حاكم دمشق للحشاشين بامتلاك قلعة بانياس عام 1126م على الحدود مع الدولة الصليبية، فقاموا باستغلال سيطرتهم على تلك القلعة والتي كانت القاعدة الحصينة لهم، من أجل نشر دعوتهم في الأقاليم القريبة.
لكن ومع وفاة حاكم مدينة دمشق ظاهر الدين عام 1128م، بدأت حركةٌ معاديةٌ للحشاشين مشابهةٌ لما حصل في حلب بعد وفاة حاكمها رضوان. حيث تعاون بوري ابن طغتكين الحاكم الجديد للمدينة مع قائد الشرطة فيها للإيقاع بالحشاشين. ففي يوم الأربعاء 4 سبتمبر/أيلول من العام 1129م، وأثناء تواجد الوزير المزرجاني - المتعاطف مع الحشاشين - في ديوانه يستقبل الزائرين، انقض عليه أحد رجال الحاكم الجديد بوري ابن طغتكين بضربةٍ من سيفه أطاحت برأسه، ليبدأ العسكر بعد تلك الحادثة في المدينة بالهجوم على منازل الحشاشين وقتلهم، أفضت إلى ارتكاب مذبحةٍ كبيرةٍ قدر المؤرخون ضحاياها من الحشاشين بين الـ 10 -20 ألف قتيل. مما اضطر الحشاشين في قلعة بانياس إلى تسليمها لجيرانهم الفرنجة مقابل لجوئهم للمناطق الفرنجية.
اتخذ حاكم المدينة بوري بعد هذه المذبحة كافة الإجراءات اللازمة لحماية نفسه خشية انتقام الحشاشين. إلا أن أخبار المذبحة كانت قد وصلت إلى ألموت في فارس، فأثارت غضب و نقمة الحشاشين الذين أقسموا على الأخذ بثأر زملائهم، فقامت ثلةٌ من الحشاشين المتخفين في مدينة دمشق، بمباغتة بوري ابن طغتكين حاكم المدينة و طعنه بالخناجر حتى الموت و ذلك في العام 1131م. ولكن و بعد تلك المذبحة و بعد اغتيال ابن طغتكين لم يعد هناك أي تواجدٍ للحشاشين في مدينة دمشق، وانتهت بذلك المرحلة الثانية من محاولتهم إقامة كيانٍ لهم في سورية.
تبدأ المرحلة الثالثة لمحاولة الحشاشين بسط نفوذهم في سورية من جديد في العام 1130م والتي استمرت حتى العام 1150م، حيث تمكنوا أخيراً من تثبيت وجودهم من خلال سيطرتهم على قواعد قلاعية حصينة، كقلعة قدموس إضافةً إلى قلاعٍ أخرى تقع في جبل البهرة، كما استولوا على منطقة الخريبة بعد طرد الفرنجة منها عام 1137م، ثم استطاعوا بعد ذلك السيطرة على قلعة مصياف عام 1140م لتصبح فيما بعد أهم قلاعهم وبمثابة العاصمة لهم، يضاف إلى ذلك أيضاً سيطرتهم على قلاعٍ أخرى وهي الخوابي والرصافة والعليقة والمنيقة.
لم ينس الحشاشون خلال سنوات المراحل الثلاث السابقة عداءهم مع الدولة الفاطمية، فقد رأو في خلفائها غاصبين لحق نزار المصطفى لدين الله وأولاده في الحكم، فقاموا عام 1121م باغتيال "الأفضل"، و هو قائد الجيوش الفاطمية والمسؤول بصفة أولية عن خلع الخط النزاري. كما قاموا باغتيال الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله عام 1130م انتقاماً لما اعتبروه اغتصاباً للخلافة وعداءً لأتباع نزار المصطفى لدين الله.
ومع تمكن الحشاشين من توطيد نفوذهم في سورية، وقيام كيانٍ مستقرٍ وملاذاتٍ آمنةٍ لهم هناك، وصل إلى رئاسة الجماعة أعظم رؤسائها، وهو سنان بن سلمان المعروف ب"شيخ الجبل". ولد سنان بن سلمان في البصرة، وهاجر إلى ألموت ليتلقى تعليمه هناك، ثم تم إرساله بعدها إلى سورية ليلتحق بالحشاشين هناك. خلال فترة وصول سنان للرئاسة اندثرت الدولة الفاطمية وقامت الدولة الأيوبية تحت سيطرة صلاح الدين. فأصبح الحشاشون بذلك بين ثلاث قوىً إقليميةٍ مسيطرةٍ، وهم الأيوبيون في مصر، والصليبيون في فلسطين، والزنكيون في الموصل وسورية. وبالرغم من اتهام صلاح الدين للزنكيين بالتآمر مع الحشاشين ضده، إلا أن التاريخ يروي عن تمكن الحشاشين من إيجاد طريقهم إلى صدور الأمراء من الأيوبيين والزنكيين والصليبين على حد سواء، وإن كانت الخارطة السياسية قد فرضت عليهم بعض التحالفات المؤقتة هنا وهناك.
كان الحشاشون يرون في صلاح الدين الأيوبي عدواً لهم، بسبب خلافاتٍ عقائديةٍ، إضافةً إلى بروزه كقوةٍ إقليميةٍ صاعدةٍ مهددةٍ لكيانهم، وقد يكون سبب عدائهم له أيضا هو اتهامهم له بتزعم مذابح أصابت مخالفين له عقائدياً. مما دعاهم إلى أول محاولة لاغتيال صلاح الدين في العام 1175م، و كان ذلك أثناء قيام صلاح الدين بمحاصرة مدينة حلب التي كانت آنذاك تحت حكم الزنكيين، حيث بعث سنان رجالاً تمكنوا من التسلل داخل معسكر صلاح الدين، إلا أن أمرهم كشف قبل الوصول لخيمته، فخاضوا عراكاً أدى إلى مقتلهم ومقتل بعضٍ من كبار القادة في الجيش الأيوبي. ولم يكد يمرعامٌ على تلك الحادثة، حتى نفذ الحشاشون محاولةً أخرى وهاجموا صلاح الدين أثناء مرابطته لحصار مدينة "عزز"، لكن محاولتهم تلك أيضاً باءت بالفشل، فلم يصب صلاح الدين سوى بجروحٍ بسيطةٍ بفضل الدروع التي كان يلبسها. أخذ صلاح الدين بعد ذلك عهداً على نفسه بالرد على الحشاشين، فتقدم في أراضيهم تحدوه الرغبة في الانتقام، فحاصر قلعة مصياف في أغسطس/آب من العام 1176م، إلا أنه ما لبث أن فك الحصار عن القلعة، ويرجع ذلك لأسبابٍ عديدةٍ هي محور جدلٍ تاريخي.
في 28 من أبريل/ نيسان من العام 1192م، تمكن الحشاشون من توجيه ضربتهم الكبرى باغتيال الماركيز كونراد من مونفيراتو ملك بيت المقدس الصليبي، حيث تنكر الحشاشون بثياب رهبانٍ وتمكنوا من شق طريقهم إلى خلوة الأسقف والماركيز، وكان هذا الاغتيال آخر منجزات شيخ الجبل سنان بن سلمان الذي توفي عام 1194م، لتنتهي بوفاته أحد أهم فصول القوة في تاريخ الحشاشين في سورية.
عند وصول جلال الدين بن حسن إلى الزعامة في ألموت عام 1211م، تبنى سياسة الإصلاح وتقبل الأخوة الإسلامية بمعناها الواسع، كما عمل على إنهاء العداء التاريخي مع دول الخلافة مقابل مواجهة الدولة الصليبية. فلم تعد سياسة الاغتيالات موجهةً ضد شخصياتٍ إسلامية، فقد تمكن الحشاشون من اغتيال ريموند ابن بوهمن الرابع حاكم انطاكية في كنيسة بطرطوس عام 1213م، مما دفع بوالده المتعطش للانتقام إلى فرض حصارٍ على الحشاشين في قلعة الخوابي، فأرسل حاكم دمشق الأيوبي جيشاً هاجم الصليبين وأجبرهم على فك الحصار عن الحشاشين.
كان وقع أخبار سقوط ألموت عام 1256م بيد المغول كالصاعقة على الحشاشين في سورية، فقد فقدوا بذلك زعماءهم السياسيين والروحين، حاول الحشاشون في سورية الاستمرار بسياسة التعاون مع الدول الإسلامية، فشاركوا بالفعل بالدفاع عن المنطقة ضد الغزو المغولي.
ثم ما لبث أن دب الضعف في حركة الحشاشين، وبدأت تفقد استقلالها، و ذلك بسبب فرط التعاون مع الحاكم المملوكي بيبرس، الذي صار هو من يعين زعماء الحركة ويخلعهم. وقد حرص على التخلص من الزعماء الأقوياء عبر العزل أو حتى الاغتيال. حاول آخر زعماء الحشاشين وهو شمس الدين تنظيم مقاومةٍ للحد من نفوذ بيبرس المدمر، ولكن بلا جدوى، فقد استولى قادة بيبرس على قلعتي العليقة والرصافة عام 1271م، و تم احتلال باقي القلاع عام 1273م، لتنتهي بذلك حركة الحشاشين ويصبحوا حكاية ترويها كتب التاريخ.
المصادر:
كتاب الحشاشون فرقة ثورية في تاريخ الاسلام، برنارد لويس