الفلسفة وعلم الاجتماع > مصطلحات
مابعد الحداثة.. موجة غضب عارمة على أسس الحداثة
إن مصطلح مابعد الحداثة يقتضي بديهياً وجود حقبة زمنية قد سبقته عُرفت بالحداثة.. وهذا ما تحدثنا عنه في مقال سابق وبيّنا نشوئها وأهمّ خصائصها وسماتها.
تميّزت روايةُ مابعد الحداثة post-modernism بحسب "ماكهايل" بنقلةٍ من هيمنة "الابستيمولوجيا" إلى هيمنة "الانطولوجيا"، أي الانتقال من المنظوريّة الواحدة التي تسمحُ بإبراز حقيقةٍ معقّدةٍ أحاديّة، إلى حقلٍ متقدّمٍٍ من الأسئلة حول قدرة حقائق مختلفة جذريّاً على التعايش والاصطدام والتداخل.
لكن لا يمكن القولُ أنَّ مابعد الحداثة هي نسخةٌ معدّلةٌ من الحداثة، إذ أنّ نشأة مابعدَ الحداثةِ كانت رَدّ فعلٍ على الحداثة
بل إنّها وكما يقولُ "برينشتاين": "موجةُ غضبٍ عارمٍ ضدَّ الإنسانويّة وتراث التنوير". فما هي هذه الظاهرة؟ ومتى نشأت؟ ماهي خصائصها؟ لنتابع المقال التالي.
يُعتبر مصطلح "مابعد الحداثة" من المصطلحات الّتي لامسها الكثير من اللبس والشّك، نظراً لتعدد مفاهيمه ومدلولاته من ناقدٍ إلى آخر. وعلى الرّغم من اعتبار "فترة" ما بعد الحداثة والتي تمتدّ بين 1970 و 1990 ، إلّا أنّه تمّ إحداث نقاشاً مستفيضاً حول ظهوره "كمصطلح" قبل هذه المدة، وذلك في فترة الخمسينيات على يد المؤرخ البريطاني "أرنولد توينبي" عام 1959 الّذي جعل المفهوم يُدلّ على ثلاث أماراتٍ ميّزت الفكر والمجتمع الغربيين بعد منتصف هذا القرن، وهي:
• اللاعقلانية.
• الفوضوية.
• التشوّش.
فوجد -وعدّة مفكرين آخرين- أنّ فلسفة مابعد الحداثة اعتمدت أساساً على التشكيك والتقويض والعدمية، كما اعتمدت على اللانظام واللاانسجام، وإعادة النظر في الكثير من المسلمات والمقولات المركزية التي تعارف عليها الفكر الغربي قديماً وحديثاً كاللغة والهوية والأصل، وقد استخدمت في ذلك آليات التشتيت والتشكيك والاختلاف والتغريب.
أمّا عند الحديث عن السياق الذي ظهرت فيه مابعد الحداثة نجد بأنّها ارتبطت في بُعدها التاريخي بتطور الرأسمالية الغربية اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً، وكذلك بتطور وسائل الإعلام. ناهيك عن ظهورها في ظروف سياسية معقدة وذلك بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وخاصة في ظروف الحرب الباردة، وانتشار التسلح النووي، وإعلان ميلاد حقوق الإنسان، وظهور الفلسفات اللاعقلانية كالسريالية، والوجودية، والفرويدية، والعبثية ، والعدمية.
أما "شارلز جانكس" يحدد الانتقال إلى مابعد الحداثة عند الساعة الثالثة والدقيقة الثانية والثلاثين من بعد ظهر 15 تموز 1972، عندما تم نسف مبنى "بريت-إيغو" لذوي الدخل المحدود باعتباره بيئة لا يمكن السكنُ فيها، وهذا المبنى كان قد حاز على جائزة لوكربوزييه على أنّه "آلةُ العيش الحديث".
بالمقابل كان هناك ثورات فعليّة على مستوى الأفكار، كأفكار "ميشيل فوكو" التي دعت إلى الهجوم المتعدّد الأشكال والمتنوّع على ممارسات القمع، ومن خلاله فقط يمكن العمل على تغيير عالميّ للرأسماليّة دون المخاطرة بعودة آلياتٍ قمعها بأشكال جديدة. مثل هذه الأفكار أدَّت إلى حركات اجتماعيّة عديدة والتي نشأتْ في الستينيات مثل (الحركات النسائيّة، المثليون، التجمعات العرقيّة والدينيّة، الحركات الاستقلاليّة... إلخ). ومن ثم نرى بأنّ مابعد الحداثة احتفلت بأنموذج التشظي والتشتيت واللاتقريرية كمقابل لشموليات الحداثة وثوابتها.
علمنا إذاً أن مابعد الحداثة ارتبطت بالرأسمالية الغربية وهذا ما دعا لوصف مابعد الحداثة بـ "الرأسمالية المتأخرة" التي تأتي متوافقة مع المجتمع المعلوماتي والتي يمكن ان نطلق عليها "الحقبة المدفوعية بالمعلوماتية" أي المدفوعة بالتقانة العليا والعمل اللامادي الذي ينتج خدمات والذي يتعامل مع الرموز (الأوامر بواسطة اللغة كما في استعمال الحاسبات) والترقيم الذي يولد أوهاماً واقعية.
ومع أنّ حقبة المعلوماتية شملت العالم كله من دون تمييز، فإنّ هناك إعادة للنظر في النماذج التنموية المعتادة تحت ضغوط العولمة: فهناك المعلوماتية المتطرفة كما في حالة الولايات التحدة، وهناك المعلوماتية التي تعمل بالتنسيق مع قطاع الصناعة كما في حالة اليابان وألمانيا، وهناك أيضاً المعلوماتية التي تختلط بالاقتصاد الصناعي وقطاع واسع في الزراعة غير المصنعة في دول العالم الثالث.
مرتكزات ما بعد الحداثة:
تستند مابعد الحداثة في الثقافة الغربية إلى مجموعة من المرتكزات الفكرية والفنية والجمالية والأدبية والنقدية، وسنتطرق لبعض من هذه المبادئ:
1- التقويض:
تهدف نظرية مابعد الحداثة إلى تقويض الفكر الغربي، بمعنى أن مابعد الحداثة قد تسلحت بمعاول الهدم والتشريح لتعرية الخطابات الرسمية، وفضح الإيديولوجيات السائدة المتآكلة، وذلك باستعمال لغة الاختلاف والتضاد والتناقض.
2-التشكيك:
أهم ما تتميز به مابعد الحداثة هو التشكيك في المعارف اليقينية، وانتقاد المؤسسات الثقافية المالكة للخطاب والقوة والمعرفة والسلطة. ومن ثم، أصبح التشكيك آلية للطعن في الفلسفة الغربية المبنية على العقل والحضور.
3- العدميّة:
من يتأمل جوهر فلسفات مابعد الحداثة، فإنه سيجدها فلسفات عدمية وفوضوية لا تقدم بدائل عملية واقعية وبراجماتية، بل هي فلسفات عبثية لا معقولة، تنشر اليأس والشكوى والفوضى في المجتمع.
4- التفكك واللاانسجام:
فلسفات مابعد الحداثة هي ضد النظام والانسجام، بل هي تعارض فكرة الكلية. وفي المقابل، تدعو إلى التعددية والاختلاف واللانظام، وتفكيك ماهو منظم ومتعارف عليه.
5- هيمنة الصورة:
رافقت ما بعد الحداثة تطور وسائل الإعلام، فأصبحت الصورة البصرية علامة تشهد على تطور مابعد الحداثة، ولم تعد اللغة هي المنظم الوحيد للحياة الإنسانية، بل أصبحت الصورة هي المحرك الأساس للتحصيل المعرفي، وتعرف الحقيقة.
6- الانفتاح:
إذا كانت البنيوية الحداثية قد آمنت بفلسفة البنية والانغلاق الداخلي، وعدم الانفتاح على المعنى، فإن ما بعد الحداثة قد اتخذت لنفسها الانفتاح وسيلة للتفاعل والتفاهم والتعايش والتسامح.
7- التناص:
يعني التناص استلهام نصوص الآخرين بطريقة واعية أو غير واعية. بمعنى أن أي نص يتفاعل ويتداخل نصياً مع النصوص الأخرى امتصاصاً وتقليداً وحواراً. ويدل التناص على التعددية، والتنوع، والمعرفة الخلفية، وترسبات الذاكرة.
8-الدلالات العائمة:
تتميز نصوص وخطابات مابعد الحداثة أن دلالات تلك النصوص أو الخطابات غير محددة بدقة، وليس هناك مدلول واحد، بل هناك دلالات مختلفة ومتناقضة ومتضادة ومشتتة.
إضافةً لغيرها من المبادئ كـ: قوة التحرر، إعادة الاتبار للسياق والنص الموازي، تحطيم الحدود بين الأجناس الأدبية، التخلص من المعايير والقواعد، ومافوق الحقيقة. كما يمكننا ملاحظة أن هناك العديد من المبدعين والفنانين قد عادوا إلى الماضي البعيدِ ليقتبسوا مِنْهُ ويُضيفوا إليهِ إبداعاتِهمُ الجديدة، مثلاً ينشر روشنبارغ، أحَّدَ روّادِ حركة مابعد الحداثة، صورتَي "فينوس روكوبي" لفيلا سكويز و"فينوس أمام مرآتها" لروبز في سلسلة من لوحاته. إنّ ما يفعلهُ "روشنبارغ" هو ببساطة إعادةُ إنتاج.
خلاصة القول؛ أن فلسفة مابعد الحداثة كانت بمثابة مِعوَل لهدم وتقويض من الميثولوجيا الغربية القائمة على الهيمنة، والاستغلال، والاستلاب، والتعليب والتغريب، وتعمل جاهدة على تحرير الإنسان من المقولات المركزية الثابتة التي تحكمت في الثقافة الغربية لأمد طويل وذلك عن طريق التسلح بمجموعة من الآليات الفكرية والمنهجية، كالتشكيك وفضح الأوهام الإيديولوجية، وتعرية الخطابات القمعية المبنية على السلطة والقوة.
المصادر:
- الحداثة وما بعد الحداثة-فريد باسيل الشاني- الحوار المتمدن- 2008
- مدخل إلى مفهوم ما بعد الحداثة-د.جميل حمداوي- شبكة الألوكة- 2012
- ماهي ظاهرة مابعد الحداثة- بول كوبان