العمارة والتشييد > التصميم العمراني وتخطيط المدن
دمشق، الهوية الضائعة. (الجزء الثاني)
تعرفنا في مقالنا السابق على مفهوم هوية المدينة بشكل مختصر و مبسط وعن كيفية تشكلها عبر الزمن وبأنها الحقيقة المعبرة عن كينونة المدينة وليست انطباعا متغيرا من شخص الى آخر. الآن سنقوم بعرض تحليل مبسط لهذا المفهوم على عاصمتنا الجميلة دمشق و للأسف ما نراه لا يبشر بالخير و يدل على أن مدينتنا بدأت منذ زمن طويل بفقدان مكونات هويتها مما ينذر بكارثة مستقبلية إن لم نتدارك الوضع. فلنرى وضع هويتها و نحاول استقراء مستقبلها ... تابعوا معنا.
هوية مدينة دمشق:
جميعنا نتغنى بدمشق وجمالها وبذلك الإحساس الجميل الذي تبثه فينا رائحةُ ياسمينِها في تلك الحارات الضيقة، ورؤية البيوت القديمة بخشبها وحجرها تنام على أكتاف بعضها البعض وذاك المزيج من مشاعر الحنين والحب والعظمة والرهبة وغيرها. وكيف أنها تحتضن كنوزاً من الآثار تعود إلى تراكمٍ هائلٍ من الحضارات المتعاقبة وهذا ما يميزها عن أغلب المدن التاريخية، التي فقدت الكثير من كنوزها الحضارية بسبب التغيير الجذري الذي طرأ عليها في العصر الإسلامي، فتحولت إلى مدن ذات طابعٍ إسلامي بحت، يصعب العثور ضمن مكوناتها على ما يربطها بتاريخها قبل الإسلام.
أظن بأن معظمكم عندما قرأ هذا الوصف عن دمشق بدأ بالتفكير فوراً بدمشق القديمة، ولكن هل مدينة دمشق محصورة ضمن السور الروماني القديم؟ أظن أن الجميع يشعر بالانقطاع والاختلاف الكبير ما بين المدينة القديمة وامتدادها الحديث. هذا الفرق يُحدث أضراراً جسيمةً ببنية المدينة الاجتماعية والروحية وينعكس سلبياً على بنية المدينة الفيزيائية.
هل الأحاسيس التي تعطيك إياها مناطق العشوائيات تقترب ولو قليلاً من شعورك أثناء قضائك الوقت في دمشق القديمة؟ وهل يليق بدمشق أن تتمدد بهذا الشكل العمراني الذي أدى إلى تشويه صورتها وبالتالي هويتها؟ هل دمشق بردى وقاسيون التي قرأناها في كتابات الشعراء والأدباء هي نفسها دمشق المسوّرة بغابة من الكتل الإسمنتية العشوائية؟
الجواب طبعاً لا وهذه الظاهرة بلغ تأثيرها المدينة القديمة أيضاً. يمكنا أن نرجع سبب هذا الضياع إلى عدة عوامل منها:
التغيرات الحاصلة على المدينة القديمة:
هناك تغير كبير في النواحي الاجتماعية والسكانية والاقتصادية يحدث في مدينة دمشق القديمة، الأمر الذي يؤدّي إلى تحول في بيئتها العمرانية ككل. فسكان دمشق القديمة بدأوا يهجرونها ويقطنون في منازل حديثة. السبب الرئيسي وراء هذا هو طبيعة المنازل التقليدية التي تحتاج صيانة دائمة وبمواد معينة باهظة الثمن وعدم تقديم الحكومة لأي مساعدات في ترميم هذه المنازل التي تعد إرثاً تاريخياً مهماً. فاضطر ساكنو هذه المنازل إلى بيعها للتجار سعياً وراء الأسعار العالية التي يعرضونها. يقوم هؤلاء التجار بترميم المنازل فيزيائياً ثم إعادة استعمالها كفنادق ومطاعم وغيرها، وهذا بحد ذاته تغيير غير مدروس في بنية المدينة أدى إلى واقع اجتماعي جديد وإلى حركة مرورية جديدة لا تتناسب مع التخطيط الأصلي للمدينة.
التغير الديموغرافي:
يمكن إرجاع التغير الديموغرافي إلى عاملين أساسيين هما الهجرة من الريف إلى المدينة، واللاجئين الفلسطينيين والعراقيين، مما أدى إلى ارتفاع مفاجئ وغير متوقع بتعداد السكان. هذه الزيادة السكانية كانت عاملاً أساسياً في تغيير بنية المدينة الفيزيائية والاجتماعية وكانت السبب الأساسي في فقدات السيطرة على نمو المدينة وتوسعها مما أدى الى نشوء نسيج عمراني واجتماعي جديد.
التغير البيئي:
يتمثل في التلوث، سواءً تلوث الهواء أو الضجيج الصوتي والذي يرجع سببه الأساسي إلى السيارات وحركة المرور غير المدروسة. تأثير هذا التلوث سلبي جداً وخاصة على المدينة القديمة، حيث أنها بُنيت من موادَّ عضوية تتأثر بشكلِ مضاعفٍ بالتلوث الناتج عن استعمال الإسمنت ومواد البناء الحديثة. لست أَدعِي إلى العيش دون سيارات، ولكن يمكن تجنب دخول السيارات إلى داخل المدينة القديمة لأسباب عديدة: فطرق المدينة القديمة أساساً غير مخصصة لحركة السيارات لأنها مصممة بشكل خاص لتتناسب مع أبعاد الانسان. في العديد من التجارب العالمية، تم منع دخول السيارات إلى المراكز التاريخية كمدينة فيينا، مما أدى لتنشيط الحركة ضمن المدينة القديمة وازدهارها اقتصادياً بالنسبة للباعة وأصحاب الأعمال.
إهمال إصدار وتنفيذ مخططات وتشريعات عمرانية:
بدءاً من مخطط إيكوشار عام 1935 وحتى مخطط جايكا عام 2008، كان هناك قصور في إنجاز المخططات ضمن الوقت المحدد وحتى قصور في توقع احتياجات التوسع وعدم المقدرة على تأمين المتطلبات السكنية بشكل يتوافق مع الزيادة العددية. مما أدى إلى تفاقم النمو العشوائي للمدينة وتشويه صورتها.
العشوائيات:
تعد السبب الأساسي في تشويه البيئة العمرانية لمدينة دمشق. وطبقاً للمركز السوري للإحصاء، تشكل العشوائيات نسبة 60% من مجمل مساحة مدينة دمشق، حيث أن 48% من سكانها يقطنون في مناطق العشوائيات أي أكثر من مليوني شخص. هذه الظاهرة نتجت عن العوامل الديموغرافية والتشريعية السابق ذكرها واستمرت بسبب القصور وعدم الجدية في إيجاد حلول لتنظيم هذه المناطق وإعادة تأهيلها. كنتيجة تحولت الغوطة التي كانت جزءاً اساسياً من هوية دمشق إلى غابة من الإسمنت.
العولمة:
من الناحية النظرية، العولمة هي نظام حديث وَظَفَ العلم والاقتصاد والتكنولوجيا لمصلحته، لتقليل المسافات التي تفصل المجتمعات البشرية، وتسهيل تبادل المعلومات والأفكار بينها. إلا أنه يتمثل واقعياً بدعاية وتسويق للفكر الغربي وتصديره إلى جميع أنحاء العالم. أصبحت صورة الغرب هي الصورة المثالية التي يطمح إليها الجميع وأصبح التشبه بما ينتجه الغرب هو دليل تقدم وتطور المجتمعات، مما أدى إلى تخلينا عن موروثنا الحضاري والثقافي والتاريخي، وانعكاس هذا الأمر بشكل مباشر على البيئة والهوية العمرانية لمدينة دمشق. فأصبحت الأبنية العالية المكسوة بالزجاج هي مثال الرقي والنهضة العمرانية بالرغم من أنها تناقض المتطلبات الاجتماعية وحتى المناخية لبيئتنا.
يجب أن نعي أن موروثنا الثقافي والتاريخي والاجتماعي والعمراني هو موروث مرن وقابل للتطويع بشكل كبير في أُطرٍ جديدةٍ متطورةٍ جداً قادرةٌ على تحقيق متطلبات النهضة العمرانية والحفاظ بذات الوقت على هويتنا وروحنا الأصلية التي تميزنا عن باقي الحضارات، وهذه الخطوات هي التي تضمن جعل العالم أغنى حضارياً. يمكننا أن نذكر هنا كمثال كيفية تطوير مفهوم المشربية في مبنى معهد العالم العربي بباريس.
دمشق مدينةٌ قادرةٌ على إيصال سحرها وروحها إلى ساكنها حتى الآن رغم الصعوبات، عن طريق مدينتها القديمة. وعلى الرغم من تلاشي هذه القدرة تدريجياً بسرعة كبيرة إلى أنها لم تمت بعد. لذا علينا الانتباه ومحاولة حفظ ما تبقى وإحياء ما فقد. هذا لا يمكن أن يتم بالنزعة والحنين إلى الماضي والتاريخ وحفظ الشخصية التاريخية فقط، بل يجب أن يكون هناك هوية متجددة في المدينة، على أن يبنى الجديد على أساس القديم ويكمله تصميمياً ووظيفياً لا أن يمحيه.
هل توافقوننا الرأي فيما وجدناه أم أن لكم رأيا آخر؟ شاركونا بآراءكم.
المصدر:
حقوق الخلفية الموسيقية بالتسجيل الصوتي:
الموسيقار سعد الحسيني