المعلوماتية > عام
رحلة البحث عن الخوارزمية الخارقة - الجزء الثاني
تكلمنا في الجزء الأول من هذا المقال (هنا) عن الخوارزميات العادية التي تستطيع الواحدة منها التعامل مع مشكلة واحدة محددة لها من البداية، وهو ما تجاوزته الخوارزميات القادرة على التعلم والتي تستطيع التعلم من البيانات المتاحة في مجال معين أو مشكلة بعينها، لتستطيع إنتاج خوارزمية مناسبة لهذه المشكلة وهو ما يُمكّن هذه الخوارزميات من التعامل مع مشاكل مختلفة ومتنوعة. وتمثل الخوارزميات القادرة على التعلم القلب النابض لمجال تعلم الآلة، الذي يُمكّن الآلات والحواسيب من حل مشكلات مختلفة لم تُبرمَج من قبل.
قد يستغرق العلماءُ كلَّ عمرهم العلمي لاختبار صحة بضعة مئات من الفروض العلمية، وتستطيع النظم المبنية على تعلم الآلة القيامَ بالمهمة نفسها في جزء من الثانية؛ حيث يجعل تعلم الآلة من عملية البحث والاكتشاف عمليةً آلية.
استخدم هابل Edwin Hubble في القرن الماضي الصورَ الفضائية لاستكشاف مجرات جديدة من خلال تأمل هذه الصور بعينيه، ولو استمر هذا الأمر بهذه الطريقة فالأمر أشبه بعد حبات الرمال على الشاطىء حبة بحبة. والآن تتمُّ الاستعانة بنظم تقوم على تعلم الآلة لاستكشاف الفضاء والتمييز بين الأجرام السماوية المختلفة من مجرات ونجوم وكواكب.
في معظم تطبيقات تعلم الآلة يقوم عددٌ محدود من الخوارزميات القادرة على التعلم بدور المحرك الأساسي فيها، فخوارزمية مثل "Naïve Bayes"، إذا تمَّ إعطاؤها قاعدةَ بيانات لبعض المرضى والأعراض التي يشكون منها ونتائج فحوصاتهم، فستستطيع أن تُشخصَ حالتِهم في جزء من الثانية.
لو أن عددًا محدودًا من الخوارزميات القادرة على التعلم يستطيع أن يقدّمَ كلٌّ منها الحلولَ لقائمة طويلة من المشاكل المختلفة والمتنوعة، فإن السؤال المنطقي: هل نستطيعُ أن نستعيضَ بخوارزمية واحدة لتقوم بما يمكن أن تقوم به كل هذه الخوارزميات مجتمعة؟ بكلمات أخرى: هل تستطيع خوارزمية واحدة أن تتعلم من البيانات كل شيء ممكن لتفعل كل شيء ممكن؟ بالطبع ستكون البيانات التي ستحتاجها هذه الخوارزمية لتتعلمَ أكبر بكثير مما تحتاجه خوارزمية متخصصة في حل نوعيات محددة من المشكلات. هل ستستطيع خوارزمية واحدة الوصول لكل معارف الماضي، الحاضر والمستقبل من خلال التعلم من البيانات؟
لو أمكننا بحق اختراع هذه الخوارزمية والوصول إليها، فستكون أعظم إنجازات البشر العلمية على الإطلاق وستصبح بحق: الخوارزمية الخارقة The Master Algorithm". كل ما ستحتاجه هذه الخوارزمية الخارقة أن نغذيها بالبيانات اللازمة، وستقوم باكتشاف المعارف الثمينة بها. أعطها مكتبة، وستتعلم القراءة. أعطها نتائج تجارب فيزيائية، وستكتشف منها القوانين التي تحكمها. أعطها بيانات عن مكونات الحمض النووري، وستكتشف هي ومن تلقاء نفسها بناءه والطريقة التي يتشكل بها.
قد يبدو هذا للوهلة الأولي حلمًا بعيد المنال، ولكن هناك أدلة متعددة يسوقها لنا العلم على وجود هذه الخوارزمية الخارقة، حتى ولو لم نتوصل لها حتى الآن. ويمكن استخلاص هذه الأدلة بشكل غير مباشر من النتائج والأبحاث التي خرجت من فروع مختلفة من العلوم، فمن خلال الدراسات التي تمت على دماغ الإنسان، يتبين لنا أن الدماغَ هو في حد ذاته خورازمية خارقة تتعلم باستمرار لتواجه وبمرونة المشكلات المختلفة. فإذا تمكنا من إعادة بناء دماغ الإنسان بشكل عكسي، بعملية تُشبه العملية التي طورنا بها جهاز القلب الصناعي أو الكلى الصناعية، فنحن قريبون جدًا من بناء الخوارزمية الخارقة. وهناك أدلة أخرى من الممكن الحصول عليها من الأبحاث والدراسات التي جرت في فروع علمية أخرى ومنها الإحصاء والفيزياء وعلوم الحاسوب.
ليس علينا أن نبدأ من الصفر في رحلة بناء الخورازمية الخارقة فهناك جهودٌ عظيمة في مجال تعلم الآلة تراكمت على مدارِ العقود الماضية نستطيع البناء عليها. وبالرغم من أن رحلةَ البحث عن الخوارزمية الخارقة صعبة وطويلة ومعقدة، ولكن هناك بضعة مدارس في مجال الآلات والبرامج القادرة على التعلم، وكل منها يسعى للوصول إلى هذه الخوارزمية انطلاقًا من أفكار ومناطق بحثية مختلفة. كل مدرسة وكأنها تمتلك جزءًا من حل اللغز، ولابد من تجميع هذه الأجزاء معًا، وهي الخُطوة الأولى في اتجاه الوصول للخوارزمية الخارقة.
امتلاك الخوارزميات والحواسيب القادرة على التعلم لا يعني امتلاكها لإرادة في ذاتها؛ ستساعدها عملية التعلم على تحقيق الأهداف المحددة لها بشكل مرن، وهذا لا يعني أنها تستطيع تغيير هذه الأهداف أو التمرد عليها. الكثيرون بالطبع سينتابهم القلق من أن تصلَ مثل هذه الخوارزمية الخارقة لأيدي الأشرار بما تمتلكه من إمكانات لا نهائية. لكننا علينا أن نبذل قصارى جهدنا ليصل الطيبون لهذه الخوارزمية أولًا، وإذا لم يكن من الممكن معرفة من هم الطيبون، فعلى الأقل أن تكون مفتوحة المصدر Open-Source للجميع.
شيء مهم آخر وهو أن هذه الخوارزمية الخارقة يتوقف عملها بشكل حيوي وأساسي على البيانات التي تتغذى عليها، ومن سيستطيع التحكم في هذه البيانات أو التلاعب فيها سيتحكم بشكل غير مباشر في هذه الخوارزمية والطريقة التي ستعمل بها. ولهذا فإن كثيرًا من معارك القرن الحالي بين الحكومات والشركات والمؤسسات والأفراد ستكون على التحكم في البيانات وملكيتها.
سنعرف أننا وصلنا إلى هذه الخوارزمية عندما تستطيع الخورازمية نفسها -على سبيل المثال- أن تفهمَ النصوص والفيديو كما يفهمها الإنسان، وأن تقدم لنا اكتشافات جديدة في الكيمياء والفيزياء وعلم الاجتماع والعلوم المختلفة الأخرى. على شرط أن تكون خوارزمية واحدة قادرة على أن تفعل كل شيء، والمتغير الوحيد هو ما تتغذى عليه الخوارزمية من البيانات.
لا نريدها صندوقًا أسودًا!
في كل مرة تدخل لأحد مواقع الإنترنت أو تستخدم الكمبيوتر أو هاتفك الذكي فهناك أمران: الأمر الأول هو حصولك على خدمة سعيت إليها من هذا الموقع أو التطبيق، والأمر الثاني الأهم أنه باستمرارك في استخدام هذه المواقع والتطبيقات فإن البرامج القادرة على التعلم التي تشغلها تتعلم عنك وعن شخصيتك أكثر وأكثر، وهو ما يؤهلها لخدمتك بشكل أفضل، ويجعلها أيضًا قادرة على التلاعب بك.
عندما تقابل شخصًا لأول مرة وتتكرر لقاءاتكم من بعد ذلك، فإن هذا الشخص سيبني لك صورة في عقله من خلال المعلومات والانطباعات التي يستخلصها من تعامله معك، وإذا استطعت التحكم في الانطباعات والمعلومات التي تخرج منك، فأنت تتحكم بشكل كبير في الصورة التي سيبنيها هذا الشخص لك.
الأمر ليس مختلفًا كثيرًا عند التفاعل مع أحد الأنظمة والبرامج القادرة على التعلم، ولهذا فمن المهم أن تكون هذه الأسئلة حاضرة في وعيك أثناء تفاعلك مع أحد هذه الأنظمة: ما هي الصورة التي أريد أن تُكوّنها البرامج القادرة على التعلم عنّي؟ ما هي البيانات التي أحتاج لتغذية هذه البرامج بها، لأساعدها على تكوين الصورة التي أريدها لنفسي؟
جرّب في المرة القادمة لاستخدامك لـ«فيس بوك» أن تستحضرَ هذه الأسئلة، وانظر كيف من الممكن أن يؤثر هذا على ما تنشره وتُعجب به وتشاهده وتختار متابعته على الموقع، وهو ما سيؤثر تباعًا على الصورة التي سيكونها «فيس بوك» عنك بمرور الوقت، والتي من خلالها سيقوم بعرض وترتيب المواد والخدمات المناسبة لشخصك، وكذلك دوائر اهتمامك من الناس والصفحات المتاحة على «فيس بوك». وما ينطبق على «فيس بوك« ينطبق على العشرات غيره من المواقع والتطبيقات والخدمات الإلكترونية التي نتعامل معها.
الكتاب الذي عرضناه في مقال من جزئين هو كتاب الخوارزمية الخارقة: كيف سيعيد البحث عن الخوارزمية الخارقة تشكيل العالم الذي نعرفه! The Master Algorithm: How the Quest for the Ultimate Learning Machine Will Remake Our World لكاتبه "Pedro Domingos"، وهو أستاذ علوم الحاسوب بجامعة واشنطن، وقد فاز مؤخرًا بجائزة الإبداع "SIGKDD" وهي أعلى جائزة في علم البيانات.
المصادر: