البيولوجيا والتطوّر > منوعات بيولوجية
نموذج عصري لحصان طروادة يوقِع بالبكتيريا المستعصية في الفخ!
استعمل الناس الطين منذ زمن بعيد لأغراض طبّية عديدة سواءً من خلال تناوله أو الاستحمام به أو حتى استخدامه لإيقاف النزيف، ولم تتوقف فوائد الطين عند هذا الحد فحسب، بل وعُرف الطين بخاصيته القاتلة للبكتريا، إلّا أنّ آلية حدوث ذلك لم تكُن معروفة حتى يومنا هذا، حيث كشف فريق بحث من جامعة ولاية أريزونا النقاب عن هذا اللغز!
كما تعودنا في مقالاتنا دوماً؛ نبدأ من الألف لنصل إلى الياء. بدايةً ما هو الطين؟
يُطلق مصطلح الطين على خليط المواد التي لا يتجاوز حجم جزيئاتها 2 ميكرومتر (1ميكروميتر هو جزء من مليون من الميليمتر) ومجموعة المعادن التي تمتلك تراكيب كيميائية متشابهة وخصائص بنيوية بلورية مشتركة.
أمّا تشكّل الطين ومعادن الطين فيتم تحت ظروف جيولوجية محدودة، وتشمل البيئات التي يتشكل فيها الطين: الرواسب القارية والبحرية، والحقول الحرارية الأرضية، والرواسب البركانية، وتجوية الصخور، ومن الجدير بالذكر أن معظم المعادن الطينية تتشكل عندما تكون الصخور على تماس مع الماء أو الهواء أو البخار.
إذا سألنا كيف يمكن لهذه البُنية البسيطة أن تؤثّر على أنواع بكتيرية تقاوم باستمرار كل جديد تأتي به معامل الأدوية من المضادات الحيوية، يأتينا الجواب على لسان العالمة ليندا ويليامز Lynda Williams التي شبهت تأثير الطين على البكتيريا بخدعة حصان طروادة الذائع الصيت في تاريخ الإغريق. ولمحبّي التاريخ الراغبين في معرفة المزيد، إليكم هذا المقال الذي سيبحر بكم في التاريخ بعيداً، لكن لا توغلوا في تصفّح مقالات قسم الفن والتراث الشيّقة هنا وعودوا إلى مقالنا البيولوجي ثانيةً!
إذن، ستُخدع البكتريا كما خُدِع سكان طروادة، أمّا الحصان هنا فهو شوارد الحديد المُرجَعة (Fe2+) التي تحتاجها الخلايا البكتيرية بكميات ضئيلة كغذاءٍ، وهذه هي نقطة الضّعف التي ستوقِعُها في الفخ! فما إن تفتحِ البكتريا أبوابَ حِصنِها (جدارها الخلوي) حتّى تتسلّلَ شوارد معدنية أخرى موجودة في الطين وهي الألمنيوم Al3+ معزِّزَةً الفُتحة المُحدَثة في الجدار الخلوي وممهّدةَ الطريق لدخول تيار كبير من شوارد الحديد إلى الخلية. يخطر في بالكم سؤال: ما الضرر في ذلك طالما أنَّ البكتريا تحتاج إلى شوارد الحديد هذه؟ تكمُن الكارثة (بالنسبة للبكتريا طبعاً) في كون دخول شوارد الحديد المُرجَع بهذه الكميات الكبيرة ومن ثمّ تحوّلها إلى الشكل المُؤكسَد (Fe3+) السّام سيقود البكتريا إلى حتفها.
من الطبيعة إلى المختبر، كيف كانت الرحلة؟
أخذت ليندا تختبر أنواعاً مختلفةً من الطين الذي يُباع عبر الانترنت تحت اسم " الطين الشافي" وذلك بعد محاولات غير ناجحة في الحصول نوع خاص من الطين الأخضر مصدره فرنسا كان قد أثبت فعاليته في معالجة قرحة بورولي (مرض يصيب الجلد بشكل أساسي ويمكنه أن يصيب العظام يسببه نوع من البكتريا تسمى المتفطرة المقرحة) لدى مرضى في ساحل العاج إلى أن وجدت ضالتها في منطقة Cascades ! نوعٌ من الطين الأزرق أثبت فعالية عالية كمضاد للبكتريا وبالفعل أظهر البحث أنّه فعّال ضد طيف واسع من العوامل المُمرضة للإنسان بما فيها السلالات المقاومة للصادات الحيوية كالمكورات العنقودية الذهبية المقاومة للميتيسلين MRSA."
تعددت الألوان، فهل الطين واحدٌ؟
إنّ ألوان الطين تعكس منشأها و تركيبها الكيميائي، فاللون الأخضر والأزرق للطين المضاد للبكتريا على سبيل المثال سببه المحتوى العالي للطين من الحديد المُرجَع (Fe2+)، أمّا المحتوى العالي من الحديد المؤكسد (Fe3+) فيعطي الطين اللون الأحمر المميِّز للصدأ. تنتشر أنواع الطين الحاوية على الحديد المُرجَع على نحو شائع حول العالم، وتتكون بشكل نموذجي في طبقات الرماد البركاني بفعل تأثُّر الصخور بالماء الغني بالهيدروجين والمنزوع الأوكسجين.
ونأتي إلى الجانب الذي يهمُّنا جميعاً، وهو الجانب التطبيقي المتعلّق بهذا البحث، فما عساها تكون الفائدة من اكتشاف الآلية التي تقوم بها بعض أنواع الطين بالقضاء على البكتريا؟
تتلخّص أهمية البحث في أمرين اثنين: أوّلهما توصيف البيئة الطبيعية لتشكيل الطين المضاد للبكتريا، وثانيهما معرفة الآلية التي يهاجم من خلالها هذا النوع من الطين البكتريا ويدمّرها. هذا الاكتشاف يساعد في الوصول إلى طرائق بديلة في معالجة الإصابات والأمراض المزمنة والتي تصعب معالجتها بالمضادات الحيوية.
فهل سيؤدي هذا الاكتشاف إلى استثمار أنواع الطين المضادة للبكتريا اقتصادياً وابتكار أنواع جديدة من الأدوية؟ هذا ما ستكشفه لنا الأيام القادمة...
المصادر:
البحث الأصلي: هنا
قرحة بورولي: هنا
تعريف الطين وتشكُّله هنا