كتاب > روايات ومقالات
مراجعة رواية (الفتى المُتيّم والمعلم): حكايةُ الشغف، ورحلةُ البحثِ عن مركزِ الكون.
تبدأ هذه الرواية مع الحدثِ الدمويّ الذي يهزُّ قصرَ السلطان العثمانيّ وقتَئذ؛ مرادٍ الثالث، فأصوات الصُّراخ والضَّجَّة التي كانت محظورةً في جناح الحريم جَذبتْ مُرَوِّضَ الفيلِ مِن سريره ورسوماتِه، ليجتازَ حدودَه بشكلٍ فظيع، ويجدَ نفسَه وسطَ جناحِ الحريم، بين العَوِيلِ والدماءِ النازفةِ مِن أطفالٍ لا يتجاوزُ أكبرُهم سنَّ المراهقة.
ولكنَّ بدايةَ القصةِ تعودُ إلى ما قبلَ ذلك بسنوات، حينما رَسَتْ سفينةُ القبطانِ الإنجليزيِّ حاملةً على متْنِها فتًى هنديًّا هزيلًا، وفيلًا أبيضَ صغيرًا كاد يقضي نَحْبَه في الطريقِ مِن الهندِ إلى إسطنبول، الفيلَ الذي تسبَّبَ في استنفارِ نصفِ ميناءِ إسطنبول؛ لإخراجِه مِن قفصِه الضئيلِ الرَّطِبِ في قبوِ السفينة.. ليجدَ الاثنان نفسيهِما في إسطنبول، حيث تتناثرُ في شوارعِها مئاتُ الأعراقِ البشرية، ومِن ثَمَّ في قصرِ السلطانِ سليمانَ القانونيّ، أشهرِ سلاطينِ العثمانيِّين، وأكثرِهم خوضًا للحروب.
مِن هناك تبدأُ رحلتُهما السرياليَّة: حيوانٌ ضخمٌ، وفتًى هزيلٌ ينتمي إلى قارَّةٍ أخرى، يتقاسمان خوفَهما مِن المجهولِ القادم.
ولو ظننْتَ بأنَّ حبكةَ الروايةِ كانتْ غريبةً حتى الآن؛ فانتظرْ حتى نخبرَك بوجودِ أميرةٍ عثمانيَّةٍ ليست مولعةً بالفيلِ فحسب، وليست جميلةً إلى حدِّ الألم فقط، ولكنَّها أيضًا ابنةُ سليمانَ القانونيّ، وأحبُّ أولادِه إليه.
ككلِّ القصص، لمْ تستمرَّ الحياةُ في جَرَيانِها بهذه السلاسةِ وسطَ الحدائقِ الملكيةِ وجدرانِ القصورِ المذهَّبة؛ فقد قرَّرَ السلطانُ الخروجَ إلى الحرب، لتبدأَ فصولٌ جديدةٌ في الرواية، ويظهرَ على مسرحِ الأحداثِ أهمُّ معماريِّي التاريخِ الشرقيّ؛ سنان. لِتتعرَّفْ، عزيزي القارئ، إلى هذا العبقريّ، الذي سنتركُ لكَ متعةَ اكتشافِ شخصيتِه المعقَّدة، على امتدادِ فصولٍ وفصولٍ مِن هذه الرواية، ولكننا نستطيعُ قولَ التالي عنه، دونَ إفسادِ شيءٍ مِن أسرارِ الفصولِ اللاحقة: هذا المعماريُّ الفريدُ والمعلِّمُ الموهوب؛ لن يكونَ غريبًا أبدًا عنك؛ فهو شخصيةٌ جديدةٌ مِن الشخصياتِ التي أوقعتْنا أليف شافاق في حبِّها منذ بداياتِها مع الأدب، لكنَّ هذا لا يعني أبدًا كونَه نسخةً مكرَّرةً عن غيره.
تتناولُ الروايةُ الكثيرَ مِن التفاصيلِ الممتعة؛ كطرقِ العنايةِ بفيلٍ أبيضَ هنديّ، والتعرُّفِ إلى مِزاجِه المتقلِّب، وأمراضِه الفريدة، وجاذبيَّةِ شخصيَّتِه التي يبدو أنه يكتسبُها على مرِّ السنوات. كذلك تُسلِّطُ صفحاتُ الروايةِ الضوءَ على المجتمعِ الشرقيِّ في فترةٍ حسَّاسةٍ مِن التاريخ، وعلى المزيجِ البشريِّ الفُسَيْفِسَائيّ؛ كالغجرِ الذين يتنقَّلون حاملين خلفَهم عرباتِهم وخِيَمَهم وأساطيرَهم، والحديثِ عن الخرافاتِ التي تبدو وكأنها معلقةٌ على نوافذِ بيوتِ المدينة، وفوقَ رأسِ كلِّ واحدٍ مِن سكَّانِها على اختلافِهم، إضافةً إلى وصفِ معاركَ حقيقيَّةٍ جرتْ منذ مئاتِ السنين، وأخيرًا التصويرِ المفصَّلِ للمساجدِ والقصورِ التي شيَّدَها سنانُ وتلاميذُه، وهي آثارٌ حقيقيَّة، لكنَّها في صفحاتِ هذه الروايةِ تطفو على سحابةٍ قرمزيَّةٍ خياليَّة.
تفيدُ هذه الدقائقُ الصغيرةُ في تشكيلِ صورةٍ واضحةٍ عن الحِرَفِيَّةِ العاليةِ التي وصلَها فنُّ العِمارةِ بشكلٍ عامّ، والعمارةُ الإسلاميَّةُ خاصَّةً، منذ أكثرَ مِن خَمسِمئةِ عام.
أخيرًا، لا بدَّ مِن التنبيهِ إلى أنَّ هذه الروايةَ كانت مِن أقوى المرشَّحين لجائزةِ أفضلِ كتابٍ تاريخيٍّ خياليٍّ لعامِ ٢٠١٥ على موقع Goodreads، ونُشرتْ لأولِ مرةٍ باللغةِ الإنجليزيةِ وليس التركية، على عكسِ المتوقَّع.
الكتاب: الفتى المتيَّمُ والمعلم.
المؤلف: أليف شافاق.
عدد الصفحات: ٦٠٨.
تاريخ النشر: عام ٢٠١٣، وصدرت عن دارِ الآدابِ عامَ ٢٠١٥.
ISBN:
9789953894935