كتاب > الكتب الأدبية والفكرية
مراجعة كتاب (دفاعاً عن الجنون): حيث لا مكان للعقلاء والمتسخين
دفاعا عن الجنون "مقدمات".. هذا هو الاسم الّذي اختاره "ممدوح عدوان" ليكون العنوان العام للمقدّمات الموجودة في هذا الكتاب، إذ أنّ الكتاب متميّز ببنيته الداخلية فهو مقسّم لعدّة مقدّمات كان الكاتب قد نظمها لتكلل بدايات عدد من الكتب سواء كانت من تألفيه أو من تأليف غيره من الكتّاب.
وهذه المقدمات أشبه بعدة عوالم أو عدة كواكب، ففي كل مقدمة فكر جديد وروح جديدة ونبض جديد منفصل عن المقدمة التي تليها فكأننا ننتقل عبر الزمن من كوكب لآخر وكل كوكب له أفكاره و ميزاته
وإنجازاته التي نراها لأول مرة.
ومنذ البداية يحذرنا "ممدوح عدوان" بأن القارئ سيلاحظ بأنّ هذه المقدّمات مكتوبة بانفعال الشّاعر أكثر مما هي مكتوبة بعقلانية الباحث.
يتصف "عدوان" في هذه المقدمات بالتعجل فلديه آراء كثيرة وهو على عجلة من أمره لقولها، فلا متسع من الوقت لكي يقدم تبريرات لها، فالحياة مزدحمة والهاوية قريبة ولا بد من أن يكمل صرخته. فيؤكد بأنّ هذا ما يجعل هذه الكتابات في منطقة وسطى بين الصحافة والشعر:
أي بين الرأي والانفعال. بمعنى آخر هي آراء مطروحة بعصبية وغير صالحة للنقاش، تقبل كما هي أو ترفض كما هي تماما كما يتم التعامل مع القصيدة.
المقدمة الأولى هي بعنوان "احتفالاً بالجنون" وهي مقدمة لكتاب عن الفنان لؤي كيالي للكاتب "صلاح الدين محمد".
يبدأ القارئ رحلته من هذه المقدمة فيجد نفسه في كوكب هو كوكب الجنون، يجد نفسه في مكان تنقلب فيه الموازين ويحكمه المجانين، فيبسط الجنون راحتيه بكل أريحية ودون أي مشكلة.
يعالج عدوان في هذه المقدمة فكرة الجنون بكل خفة وعبقرية ويؤكد بأن أكبر عيب يمكن أن يحدث لأمة هو أن تكون هذه الأمة خالية من المجانين الحقيقين. فالجنون عند عدوان هو ليس عيباً وليس مرضاً بل هو دلالة صحية على شعب معافى عقلياً وثقافياُ.
نعم نحن بحاجة للجنون بحاجة إلى المجانين الحقيقين بحاجة إلى من يخرج عن المألوف ويتجرأ وينهض ويعلن جنونه،فيفضح حجم إذعاننا وقبولنا وموت أحاسيسنا، يظهر لنا كم هو عالم مرفوض ومقيت وخانق وكم هو عالم لا معقول ولا مقبول ولا عالم يطاق هو هذا العالم.
نحن بحاجة إلى الجنون الفني وإلى الجنون الإبداعي، بحاجة إلى عدم التخفي وراء أقنعة الحكماء و العقلانين وأصحاب الشخصيات القوية التي لا تبكي. نحن لسنا بحاجة لهذه الأقنعة وهي لا تقدم لنا أية منفعة، فالشعب المعافى والشخص المعافى هو ذلك الشخص الذي لا يزج مشاعره في سجن القناعة ولا يقيد مشاعره بسلاسل الحكمة و العادات والتقاليد والمألوف كهولاء الذين يحجبون دموعهم ويعتبرون حجبها قوة، والذين يعتبرون بكاء الرجل ضعفاً ومذلةً وكأنهم يحاولون تدجين وقولبة وتحويل الناس إلى مجرد أعمدة خشبية بلا مواقف وبلا مشاعر وبلا أحاسيس لا عمل لها سوى الوقوف والتلفظ بكلمة ((نعم)).
ومن هنا ينطلق عدوان في حق الإنسان في أن يبكي عندما يتألم وفي أن يفقد توازنه الجسدي عندما يسكر وتوازنه العقلي والفكري عندما يدرك مرارة العالم الذي يعيش فيه، من حقه الجنون والجنون والجنون.
وهذا ما وجده ممدوح عدوان في ""لؤي كياليلألأ هذا الفنان والرسام الذي أعلن جنونه وقال ((لا)) في وجه من أرادوا أن يجردوه من مشاعره.لؤي كان مجنوناً طوال سبعة أعوام: من عام 1967 حتى عام 1973 ويؤكد عدوان بأنه: "يجب ألا نخفي هذه الحقيقة من حياة لؤي، بل يجب علينا أن نعلن عنها ونشير إليها باعتزاز. يجب أن نقول: "لؤي كيالي من بقايا المستحاثات البشرية التي ما يزال لديها أعصاب وحساسية وكرامة، وأن هذه الميزات هي التي جعلته غير قادر على التواؤم مع عالمنا اللامعقول فجن وأربكنا".
انعكس جنون لؤي في فنه فكان مثالاً للمجنون الحقيقي القادر على التغيير والقادر على إحداث الفرق والقادر على إنشاء مجتمع لا يرى في المشاعر خزياً ولا يضع مستحضرات التجميل على جروحه وحزنه ويعتبر هذا الفعل قوة. يمزق الأقنعة التي تخفي جنونه ويعتبر جنونه فناً.
كان موت لؤي كيالي بأن سقطت لفافته منه وهو غائب عن الوعي فاحترق مع بيته، مات لؤي محترقاً وكان قد عاش محترقا وكأنه طائر فينيق سينبعث من رماده من جديد ليعود اكثر جنوناً وأكثر إصراراً على نشر جنونه.. فيقول عدوان: "اجعلوا الحياة من حولنا معقولة لكي نظل بشراً".
* ((بين الشعر والقراء)) هي المقدمة الثانية في الكتاب،وهي مقدمة المجموعة الشعرية الأولى لممدوح عدوان بعنوان <<الظل الأخضر>>. هنا ينتقل القارئ من كوكب الجنون إلى مكان أكثر ألفة ولكن ليس أقل جنوناً وهو الشعر.
يعالج ممدوح عدوان في هذه المقدمة شروط تشكّل الفنان المبدع وشروط تشكّل الشعر الحقيقي، فيحاول عدوان تحديد ماهية وصول الفنان إلى مرحلة النضج الشعري، فيرى بأن الشعر الحقيقي يجب أن يصدر عن الأزمة التي يعيشها الفنان وإلا كان الشعر منافقاً ومقصراً وكانت التجربة الشعرية مغامرة نظرية لا ارتباط لها في الحياة. والشعر عند عدوان يموت إذا ما اهتم بالأمور اليومية والمشكلات السطحية فهو نتاج ذاتي ولا يصلح سوى أن يكون نتاجاً ذاتياً يعبر عن ذات الشاعر ومكنونه الثقافي.
تكمن أهمية الشعر بتجاوزه للزمان الذي نعيش فيه فالشعر يتجاوز هذا الزمن الحالي دون أن يكون غافلاً عن مشكلاته وعن سلبياته فهو يتجاوز هذا الزمن حاملاً معه مشكلاته وأموره العالقة ومحاولاً فك رموزها وتحليلها في زمن أخر منفصل عما نحن نعيش فيه، فللشعر نظرة استشرافية للمستقبل وإذا ما قتلنا هذه النظرة فيه نكون قد قتلنا مستقبلنا.
ويطرح عدوان من خلال هذه المقدمة أسئلة مصيرية بالنسبة للشعر والفن:
فما هي وظيفة الشعر؟ وما الذي يجعل الفنان فناناً؟ ماهو سر اهتمام الناس بالفن؟ وما هي الشرارة التي تتولد في قلب الشاعر لتولد فناً؟.
ويذكر ممدوح عدوان في هذه المقدمة قول الشاعر فوزنيسنسكي " للشعر وظيفة واحدة هي الدفاع عن إنسانية الإنسان" ولربما يكون عدوان يتبنى هذا القول كإجابة عن السؤال الأول وإن كان هذا التبني بطريقة غير مباشرة.
ينتقل فينا ممدوح عدوان بعد هاتين المقدمتين إلى مقدمة لاتقل جدلاً عن أخواتها ولربما تكون أكثرها جدلاً وحساسيّة خصوصاً في مجتمعاتنا العربية. هذه المقدمة بعنوان ((الجنس شعراً)) وهي الافتتاحية للمجموعة الشعرية "لمحمود السيد" بعنوان ((مونادا دمشق)).. في هذه المقدمة يبدع عدوان في طرح وصياغة وإيصال الفكرة التي يريد إيصالها. هنا يتكلم عدوان عن "الحب-الجنس-المرأة".
هنا يوضح لنا ممدوح عدوان كم هو مسكين من لم يكتشف الحب بعد، وكم هو مسكين ذلك الشخص العاجز عن الحب، وكم هو مسكين ذلك الشخص الذي أخطأ في الحب. فقد يظن الشخص بأنه عاش تجربة حب ولكنه مخطئ تماماً لسبب بسيط، هو أنه لم يحب. الحب عند عدوان هو حالة إنسانية تحتاج إلى مناخ معين، فالحب ثمرة تحتاج إلى شروط لكي تنضج وحين لا تتوفر الشروط كلها تأتي ثمرة أخرى وقد تكون هذه الثمرة براقة ولامعة ومثالية ولكنها بالتأكيد شيء أخر مختلف تماماً عن الحب، يمكن أن نسميها أي شيء ولكن ليس حب. لا تستطيع الوصول إلى الحب إن لم تعرف المرأة ((عالماً)) وإن لم تدعها تنضح في ذهن، عليك أن تلتقي بحالة ((المرأة-العالم)) فالمرأة دليلك لنفسك.
كل ما يطلبه ممدوح منك هو أن تغتسل جيداً قبل أن تلتقي بالحب. عليك أن تعري نفسك أمامه وأن تغسل نفسك من كل عاداتك وقيمك وتراثك البالي. عليك أن تقابل الحب نقياً صافياً فلا يمكنك مقابلته وأنت تحمل وسخك ووسخ أبويك وأجدادك، ففي الحب ستتعرق كثيراً وقد يكشف هذا التعرق مدى اتساخك وكأنك تحمل كل قذارات بيئتك ومجتمعك عن فكرة نقية اسمها <<الحب>>.
والمطلوب منك عندما تواجه مجرة اسمها (المرأة) هو ليس أن تثار جنسياً بمعنى التهيج الجنسي ولا عاطفياً وشعورياً بمعنى أن تتحول إلى مطرب وتبدأ بالغناء. كل ما عليك فعله لمواجهة هذه المجرة الغامضة هو أن تكون إنساناً أن تكون ذاتك وأن تكون <<أنت>>. فالمرأة بركان فإما أن تأتي منسلخاً من كل قناع فتخمد نارها وتسمح لك بعبور البركان وإما أن تأتي بوسخك وقذارتك وكأنك جيفة قد مر عليها شهور من التعفن فتنفجر المرأة في وجهك وتحرقك بحممها.
حاول أن تفهم الجنس وكأنه كتاب عليك تحليله بدقة،حاول أن تكتشف الجنس وكأنه مغارة مقسومة إلى كهفين، كهفك وكهفها، أدخل المرأة في عملية الاستكشاف هذه وحطم الحجارة الموجودة بين الكهفين حتى تصبحوا كوناً واحداً وكأنك تحولت لذرات تنتمي لمجرتها، لمجرة <<المرأة-العالم>>. لا تعاقب رجولتك باليبس والعفن وإنما دعها ترتوي بماء المرأة وإلا نمت رجولتك هشة يابسة.
هنا قد يتسائل البعض ولكن ما هذه المعادلة الثلاثية التي يطرحها ممدوح عدوان <<الحب-الجنس-المرأة>؟ وما هي حدود هذه المعادلة؟ وما هو مقياس نقاء هذه المعادلة؟
الحب هو المقياس. هو حب الإنسان الذي تكتشفه في المرأة وفي نفسك. هو الحب الذي سيخلد نقاءك ونقائها، هو الحب الذي سيحولك ويحولها في يوم من الأيام لجزء خالد في الطبيعة لجزء لا يموت.. وقد يأتي يوم بعد أن حققت كل هذه الشروط وبعد أن اغتسلت وهيأت نفسك وهيأت قلبك. قد تأتي لحظة تكتشف فيها أن الماء الذي كان يروي رجولتك كان سمًا، كان ماءً مليئاً بالجراثيم، وأن قلب المرأة التي أحببت كان مقعراً وشراينيه محدبه. عندها لا تفزع ولا تمت فعندها سيأتي المقياس الذي حدده لك ممدوح عدوان في البداية وينقذك، سيأتي نقاء حبك ويقدم لك الترياق.
وهذا ما يوضحه عدوان في قوله: "لهذا كان في اكتشاف الحب ألم، ففي الحب شيء من الموت".
لذلك عندما تأتي أيها القارئ لقراءة هذه المقدمة، عليك أن تأتي متسلحاً بطهارة الحب وبطهارة فكرة الجنس في رأسك، وعندما يتكلم ممدوح عدوان عن الجنس لا يقصد به جنس القطط المتوافر في كل حين ولا يقصد به جنس المسوخ وجنس الأشخاص الجيف الذين لا يرون فيه سوى شهوة باردة. بل يتكلم عن الجنس الطاهر الذي لا يبدد ولا ييبس مع مرور الزمن، عن الجنس الذي مقياسه الحب، الحب النقي.
لذلك تعال متسلحاً بطهارتك وبطهارة أفكارك عن معادلة <<الحب-الجنس-المرأة>> تعال بعد أن تكون قد حطمت جدران الوهم والخوف من طهارتك. تعال بعد أن تكون قد اغتسلت جيداً وأصبحت نظيفاً لأنه في لحظة وصولك سيطلق (ممدوح عدوان) الماء عليك، ففي الحب لا مكان للمتسخين.
يبقى للقارئ أربع مقدمات تطرح تساؤلات عديدة ليس من متسع هنا لطرحها، ولكنها من الأهمية بمكان يستدعي المرور عليها:
1- "لا بد من الشعر" هنا في هذه المقدمة قد يتسائل القارئ هل تحول الشعر إلى سلاح أم إلى شاهد وحيد على مرارة هذا العالم؟ فهل يقتل هذا الشاهد وتموت الحقيقة معه؟ أم يُترك حراً ليفرد جناحيه في سماء الحقيقة؟
2- أما في "وهذا أنا أيضًا" يؤكد الكاتب على مدى أهمية استمرار انبعاث الدم الجديد في شرايين الشاعر والفنان خوفاً من أن يكرر نفسه .
3- "اعتراف" هذه المقدمة هي عبارة عن مرافعة قام بها الكاتب أمام <محكمة الشعب الدولية> حيث كلامه كان موجهاً للضمائر وليس للعقول.
4- أما المقدمة الرابعة "النمور تتعلم الرسم" توضح مدى أهمية المسرح في معادلة تغيير العالم مبينةَ مراحل تطور المسرح السياسي. كما يتطرق الكاتب لفكرة التطرف العنصري والموروث الثقافي. فمثلا هل نكون عنصريين اذا ما استخدمنا عبارات مثل: (سوّد الله وجهك!) أو مصطلحًا كـ(سوداوي).
وسيعود القارئ بعد الانتهاء من هذه الرحلة المتعبة مرهقاً فاقداً للتوازن، سيعود حاملا في عقله آلاف الأفكار وآلاف التهيُئات، سيستيقظ بعد هذه الرحلة وسيجد نفسه متسخاً
وما عليه سوى الاغتسال.
معلومات الكتاب:
الكتاب: دفاعاً عن الجنون "مقدمات"
تأليف: ممدوح عدوان
دار النشر: دار <<النديم-الوعي>> بيروت ص.ب 37/5020
الطبعة الأولى: 1985
عدد الصفحات:87 قطع متوسط
الاشراف الفني: الهامي المليجي
لوحة الغلاف: الفنان سعيد يكن