التاريخ وعلم الآثار > حقائق تاريخية
الثورة الصناعية... حقائق ونتائج
امتدت الثورةُ الصناعيةُ لقرنِين من الزمن 18– 19، وهي الفترةُ التي تطورت فيها المجتمعاتُ الريفية في أوروبا وأميركا إلى مجتمعاتٍ صناعيةٍ وحضريةٍ. فقد شكَّلَ التصنيع تحوُّلاً نحو تشغيل المصانع والإنتاج بالجملة، ولَعِبت صناعة الحديد والنسيج بالتزامن مع تطوّر محرك البخار دوراً أساسيّاً في الثورةِ الصناعية. كما شهدت هذه الفترة تحسناً في أنظمة النقل والإتصالات والصناعة البنكيّة.
أدّى التصنيع إلى زيادة حجمِ وتنوّعِ السلع المصنعة بالإضافة إلى تحسين مستوى معيشة البعض، إلا أنه ومن جهةٍ أخرى أدى إلى خلق ظروف حياة قاتمة للفقراء والفئات العاملة. فكيف بدأت هذه الثورة وماهي المجالات التي دخلتها؟ وماذا كانت نتائجها؟
قبلَ مجيءِ الثورةِ الصناعية، كان معظم الناس في بريطانيا يعيشون في المجتمعات الريفية الصغيرة حيث تعتمدُ حياتهم على لقمةِ العيش اليوميّة والتي بدورها تعتمد على الزراعة. وقد كانت الحياة صعبةً بالنسبة للطبقةِ المتوسطة، بسبب مستوى الدخلِ الهزيل من جهة وسوء التغذية والأمراض الشائعةِ من جهةٍ أخرى. كان معظم الناس ينتجون طعامهم الخاص، بالإضافة للباسهم وأثاثهم وأدواتهم. وكانت معظمُ عملياتِ التصنيع تتم في المنازلِ أو المتاجرِ الريفيّة، وذلك باستخدام أدواتٍ يدوية أو آلاتٍ بسيطة.
الشكل (1): بريطانيا قبل الثورة الصناعية
وقد ساهم عددٌ من العوامل في كون بريطانيا مهدَ الثورة الصناعية. أحدها يكمن في امتلاكها كمّاً هائلاً من رواسب الفحم والحديد، والذي بدوره يعدُّ عنصراً أساسياً للصناعة. بالإضافة لذلك كانت بريطانيا عبارة عن مجتمعٍ مستقرٍ سياسياً، كما كانت القوة الإستعمارية الأولى في العالم، مما يعني أنّ مستَعمراتِها تشكّلُ مصدراً للمواد الخام بالإضافة إلى سوق السلع المصنعة. وبالتزامن مع الطلب المتزايد على البضائع البريطانية، احتاج التجّار إلى أساليب إنتاجٍ فعّالة بالنسبة للتكلفة، مما أدّى إلى زيادةِ المكننة ونظام المصانع.
تحوَّلَت صناعةُ النسيج بشكلٍ خاصٍ، بفضلِ التصنيع. فقبل المكننةِ والمصانع، كان يتمُّ تصنيعُ النسيج في منازل الناس (مما أدى إلى ظهورِ مصطلحِ الصناعات المنزلية)، وكان التجار دائماً يزوّدونَ الناس بالموادِ الأولية، ويأخذون المنتج النهائي. ووفق هذا النظام كان العمّال يضعونَ جداوِلهم الخاصّة، وقد سبّبَ هذا صعوبةً للتجار في عملياتِ التنظيم وأدى إلى التقصيرِ في العديد من الأوجه.
في فترة القرن الثامن عشر، أدّت سلسلةٌ من الابتكارات إلى إنتاجيةٍ متزايدة، وتطلب ذلك القليل من الطاقة البشرية فقط. على سبيل المثال، حوالي العام 1764، كان هناك رجلاً إنكليزياً يدعى "جايمس هارغريفز" (1722 - 1778) اخترع " محرّك الغزل"، وهي آلة تُمكّن الفرد من إنتاج خيوطٍ على شكلِ بكراتٍ متعددة بشكل متزامن. عند موت هارغريفز، كان هناك ما يزيد على (20000) قطعةٍ من اختراعه قيد الإستخدام منتشرةً عبر بريطانيا. وفي وقتٍ لاحقٍ تم تطوير محرك الغزل على يدِ المخترع البريطاني "صمويل كومبتون" (1753-1827)، والذي اعتُبر ابتكاراً رئيسياً في صناعة المنسوجات، وهي النول، مما جعل عمليات حياكة الملابس ميكانيكيةً. وقد تم تطويرها في ما بعد من قبل المخترع الإنكليزي " إدموند كارترايت " (1743- 1823).
الشكل(2): محرك الغزل (spinning jenny)
كما أن التطورات في صناعةِ الحديدِ لعٍبت دوراً محوريّاً في الثورة الصناعية. ففي أوائل القرن الـ 18، اكتشف رجل إنكليزيٌّ يدعى "إبراهام داربي" (1678- 1717) سبيلاً أرخص وأسهل لإنتاج الحديد الصلب عن طريق إشعال فحمِ الكوك في أفرانٍ ضخمةٍ. وفي فترة الـ 1850، طوّر المهندس البريطاني "هنري بيسمر" (1813-1898) أولَ طريقةٍ غير مكلفة لإنتاج الحديد الصلب. وبهذا أصبح كلاً من العنصرين الحديد والفولاذ عناصرَ أساسية تستخدمُ لصنعِ كل شيء، كالأجهزة والأدوات والآلات والسفن والأبنية والمنشآت.
الشكل (3): فرن صهر المعادن لأبراهام داربي، وهو الآن جزء من متحف كول بروكديل للحديد
وأصبح المحرك البخاري جزءاً لا يتجزأ من عمليّة التصنيع. ففي عام 1712، طوّر رجلٌ إنكليزيٌ يدعى "توماس نيوكومن" (1664-1729) أولَّ محركٍ بخاري (والذي كان يُستخدم لضخ المياه من المناجم). وبحلول الـ 1770، قام مخترعٌ إسكوتلندي يدعى جايمس واط (1664-1729) بتطويرِ عمل "نيوكومن"، وتحوّلَ المحرك البخاري إلى آلةِ طاقة، تُستعملُ في القطارات والسفنِ خلال الثورة الصناعية.
الشكل (4): المحرك البخاري
كذلك شهدَت المواصلات تحولاً هاماً خلال الثورة الصناعية. فقبل ظهور الثورة الصناعية كان يتم نقل الموادِ الأولية والبضائع عن طريقِ عرباتِ الخيولِ أو القوارب على طول الأنهار والقنوات. وفي أوائل القرن الـ 19 ، بنى الأمريكي "روبرت فيولتن" (1765-1815) أوّلَ قاربٍ بخاري بنجاح، وبحلول منتصف القرن الـ 19 كانت البواخر التي تعمل بالمحركِ البخاري تَنقلُ البضائع عبرَ الأطلسي. وقد تزامن ظهور السفنُ البخارية مع القطارات البخارية، ففي بدايات القرن الـ 19 أيضاً، شيّدَ مهندسٌ بريطانيٌ يدعى "ريتشارد تريفيثيك" (1771-1833) أوّلَ سكةَ حديدٍ للقطار البخاري. وفي عام 1830 أصبحت خطوطُ ليفربول ومانشستر الحديديّة أول شركة للقطارات ملتزمة بجدولِ مواعيدَ محدد وتقدم الخدمات للمسافرين. وبحلول عام 1850، كان يوجد في بريطانيا أكثر من 6000 ميلٍ من السكك الحديدية. وحوالي عام 1820، طوّر المهندس الإسكتلندي "جون ماكادم" (1756-1836) عمليّةً جديدة كليّاً لبناءِ الطرقِ، جَعلت تقنيّته، والتي تُعرف باسم "macadam- ماكادم"، الطرق أكثر سلاسةً وأقل قابليةً للإتساخ.
الشكل (5): طباعة قديمة تبين كيفية عمل شركة ليفربول ومانشستر للسكك
أما الاتصالات فقد أصبحت أسهل أثناء الثورة الصناعية، وذلك بسبب اختراعات عديدة كالتلغراف (البرقيات). ففي عام 1837، سجّل رجلان بريطانيان "ويليام كووك" (1806-1879) و"تشارلز وايتستون" (1802-1875) براءة اختراعٍ لأول تلغراف إلكتروني. وبحلول عام 1840 أصبحت السكك الحديدية تحمِل نظام" كووك - وايتستون". وفي عام 1866، تم وصل كبل التلغراف بنجاح عبر الأطلنطي.
كما شهِدت الثورة الصناعية نهضةَ البنوك ومموّلي الصناعة، وبدأ يعتمد نظام المصانع على المالك والمدراء وتم تأسيس سوق البورصة في لندن في عام 1770، وسوق البورصة في نيويورك في أوائل الـ 1790. وفي 1776 قام "آدم سميث" الفيلسوف الإجتماعي الأسكتلندي (1723-1790) والذي يُعرف بأنه مؤسس الاقتصاد الحديث بنشر كتاب يحمل عنوان "ثروة الأمم"، يَشرحُ فيه كيفية تطويرِ النظامٍ الاقتصاديٍ بالاعتماد على المشاريع الحرة والممتلكات الخاصة لوسائل الانتاج ورفض تدخل الحكومة في الاقتصاد.
جَلبت الثورة الصناعية شريحةً كبيرة ومتنوعة من البضائع المُنتجة من قِبل المصانع مِما حسَّن مستوى المعيشة لبعض الناس. بشكلٍ محددٍ للفئة المتوسطة والعليا، بينما استمرَّ الفقراء وصغار الكسبة بالغوصِ بالتحديات اليومية. كانت الأجور متدنية لمن عمِلوا في المصانع ولم تخلُ ظروف العمل من الخطر والملل. بالإضافة لذلك فقد كان يتم استبدال العمال غير المهرة بسهولة بسبب انعدام الأمن الوظيفي. أما الأطفال فقد كانوا أيضاً جزءاً من القوة العاملة ويعملون لساعاتٍ طويلة، ويتم استخدامهم من أجل مهماتٍ خطرةٍ كتنظيف الآلات، وقُدَر في بدايات الـ 1860 أن خُمس العاملين في صناعة النسيج في بريطانيا كانوا من أعمار أقل من الـ 15عام. كما أن التصنيع يعني استبدال بعض الحرفيين بالآلات.
بالإضافة لكل مما سبق فإن المناطق الصناعية أصبحت غيرَ قادرةٍ على مواكبة تدفّقِ العمال القادمين من الريف، مما أسفر عن نقصٍ في المساكن التي أصبحت مكتظةً وملوثة، أما الظروف المعيشية فقد كانت غير صحية بسبب تفشّي الأمراض. بدأت ظروفُ العمل بالتحسن في أواخر القرن التاسع عشر، وذلك عندما بدأت الحكومة بإصدار إصلاحات عمالية متنوعة واكتسب العمال الحق في تشكيل النقابات.
سَّنت بريطانيا تشريعات لتصدير تكنولوجيتها وعمالها المهرة، وقد نجحت قليلاً في هذا المجال. وهكذا انتشر التصنيع من بريطانيا إلى دولٍ أوروبيةٍ أخرى مثل بلجيكا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة. وبحلول منتصف القرن التاسع عشر، انتشر التصنيع بكامله في الجزء الغربي من أوروبا وأمريكا الشمالية الشرقية. وفي مطلع القرن العشرين أصبحت الولايات المتحدة أوّل دول العالم الصناعية الكبرى.
المصدر: